السمات الجيوستراتيجية للسياسات الأمريكية في الشرق الأوسط

مقدمة

رغم كثافة استخدام مصطلحي “الإستراتيجية” و”الجيوستراتيجية” في الوسائط الإعلامية المختلفة، وعلى لسان المشتغلين في العمل السياسي، فإن المتابع لا يعدم وجود شيء من الخلط، لدى بعض المستخدمين، في الدلالات والمعاني التي يحملها كل من المصطلحين واسعي الانتشار. فوفقاً لتعريف يحظى بتوافق كبير فإن” الإستراتيجية: هي علم وفن تنسيق استخدام القوى الوطنية (السياسية والاقتصادية والعسكرية والمعلوماتية) وغيرها، لتحقيق الأهداف الوطنية”. علماً بأن الاستخدام القديم للمصطلح، كان مقتصراً على  الدلالات المتصلة بفن إدارة العمليات الحربية، قبل أن يأخذ مكانته الجديدة وفق التعريف أعلاه. أما “الجيوستراتيجية: فهي دراسة أثر الموقع الإستراتيجي من خلال تفعيل وتوظيف استرايجيات سياسية واقتصادية وعسكرية ومعلوماتية وغيرها، لتحقيق الأهداف الوطنية”. وتشمل الجيوستراتيجية أربعة عناصر هي:

“الجيوسياسية” وهي ” مجال يهتم بمدى تأثير المحيط الطبيعي لدولة ما على الحياة السياسية فيها، سواء الداخلية أو الخارجية” و”الجيواقتصادية” التي ” تدرس العلاقة بين الأرض والمعطيات الاقتصادية، ومدى تفاعلها وأثارها على المستويات المحلية والإقليمية والدولية، المباشرة وغير المباشرة، وبالتالي أثرها على المسارات والأنشطة الاقتصادية المحددة في الاستراتيجية الاقتصادية”. و”الجيوعسكرية” و” تركز على العلاقة بين الأرض كبيئة للعمليات العسكرية، وأثرها في تحديد مكان ومسار وطبيعة العمليات العسكرية بمختلف أنواعها. كما تبرز مدى أثر الأرض وطبوغرافيتها في تحقيق الأهداف العسكرية في المستويات التكتيكية والعملياتية والإستراتيجية، كما تبرز أثر الطبيعة في بنية الإستراتيجية العسكرية، والإستراتيجية العسكرية الوطنية. و”الجيومعلوماتية” التي “تهتم بأثر المكان في طبيعة جمع ومعالجة وتحليل المعلومات وأنظمة المعلومات في ظل الإعلام الآلي المحوسب، وأثر الإستراتيجية المعلوماتية ومعطياتها في مدلول الإستراتيجية الوطنية”.(1)

تبرز التعريفات التي جرى عرضها تعدد العناصر التي تقوم عليها “الجيوستراتجية” التي يمكن أن تكون معتمدة من قبل دولة ما. ومن المتصور أن الأمر سوف يبدو أكثر تعقيداً وتشابكاً كلما ازدادت قوة الدولة وطموحاتها في لعب أدوار مبنية على قراءاتها الإستراتيجية والجيوستراتيجية. ولكن الحديث يدور في هذه الورقة عن الدولة الأكبر في العالم، وعن واحدة من أعتى القوى التي عرفها التاريخ الإنساني المعروف. ما يعني تشعباً وتداخلاً كبيراً في تحديد سمات الجيوستراتيجية التي تعتمدها على المستوى العالمي، وهي ترى لنفسها دوراً وحضوراً في العالم كله، وخصوصاً في منطقة ذات أهمية قصوى للسياسات العالمية مثل الشرق الأوسط.

تنقسم هذه الورقة إلى فصلين وأربعة مباحث. حيث يتناول الفصل الأول أهداف ومعالم السياسة الخارجية الأمريكية  ويخصص المبحث الأول منه، لمناقشة الأهداف العامة للسياسة الخارجية الأمريكية ومعالمها، بينما يناقش المبحث الثاني مكونات وأهداف السياسة الخارجية الأمريكية في الشرق الأوسط. أما الفصل الثاني فيتناول السمات الجيوستراتيجية للسياسة الأمريكية، حيث يناقش المبحث الأول السمات الجيوستراتيجية للسياسة الأمريكية في الشرق الأوسط، ويخصص المبحث الثاني لمناقشة الثابت والمتحول في السمات الجيوستراتيجية للسياسة الأمريكية في الشرق الأوسط.

الفصل الأول

أهداف ومعالم السياسة الخارجية الأمريكية

المبحث الأول

الأهداف العامة للسياسة الخارجية الأمريكية ومعالمها

يقدم الخطاب النظري الأمريكي عامة “مصفوفة” لتعيين أهداف السياسة الخارجية الأمريكية، تبدو مثالية ومشبعة بـ”القيم الأخلاقية” عن أمن العالم وسلامه وديمقراطيته، مع جرعة فائضة في تقديم حماية الأمريكيين ومصالح الولايات المتحدة الأمريكية في كل العالم، على كل الاعتبارات الأخرى.

في أولويات “المصفوفة” تلك يتكرر على نحو دائم في جدول أعمال وزارة الخارجية الأمريكية تحديد هدف رئيس للسياسة الخارجية على أنه ” خلق عالم أكثر أمناً وديمقراطية ورخاء لصالح الشعب الأمريكي والمجتمع العالمي”. أما لجنة العلاقات الخارجية في مجلس النواب الأمريكي، فتردد الحديث عن أهداف خيرة من قبيل ” منع انتشار التكتولوجيا النووية والسلاح النووي، واعتماد إجراءات لتقوية التواصل التجاري مع الأمم الأخرى، وتنظيم اتفاقيات السلع الدولية، ودعم التعليم في الخارج، ثم حماية المواطنين الأمريكيين وأعمالهم في الخارج”.

تصعب المطابقة بين هذه النصوص، وبين الممارسة الفعلية للولايات المتحدة في الواقع. يمكن استثناء العبارات المتعلقة بمصلحة أمريكا والأمريكيين، واعتبارها الغاية النهائية لكل السلوك الأمريكي الفعلي دون أي التفات لمصالح الآخرين. وتكمن المشكلة الكبرى هنا في حقيقة أن الولايات المتحدة هي الطرف الذي يحدد مفاهيم ومعايير “الأمن” و”الاستقرار” و”الرخاء” و”الديمقراطية” للعالم كله. ومن ثم فإن اعتبار بلد ما متوافقاً مع المعايير الديمقراطية أم لا، إنما يتحدد ليس وفقاً لتلك المعايير المتعارف عليها عالمياً، ولكن وفقاً لما تراه الولايات المتحدة في مصلحتها أم مناقضاً لمصالحها. ويضيق المقام بمحاولة إيراد الأمثلة على الافتراق الكبير بين مدلول عبارة “جعل العالم أكثر أمناً وديمقراطية” التي تقع في رأس سلم أولويات أهداف السياسة الخارجية للولايات المتحدة، وبين السلوك الأمريكي الفعلي في التعامل مع ممارسة دول وشعوب لحقها الديمقراطي. باختصار شديد تكون التجربة الديموقراطية ناجحة، ونظام الحكم خيراً بالقدر الذي تتجاوب فيه التجربة ونظام الحكم مع المصلحة الأمريكية، وتتحول فوراً إلى الفشل والشر، عند تعارضها مع المصلحة الأمريكية.

قديما لم تجد الولايات المتحدة حرجاً في تطبيق “ديبلوماسية الدولار” وهي التي تعني “تسخير الوسائل السياسية والدبلوماسية الرسمية، لتوسيع وحماية المصالح المالية و التجارية الأمريكية الخاصة في الخارج وكذلك استخدام الحكومة الأمريكية للمال والقروض العامة والخاصة للدول والشخصيات القيادية المؤثرة بقصد التأثير على تلك الشخصيات والدول لصالح تحقيق أهداف السياسة الخارجية الأميركية المختلفة (على سبيل المثال) منحت اتفاقية عام 1907، مع جمهورية الدومينيكان السلطات الأميركية حق السيطرة على موظفي الجمارك كضمانة لقرض مصرفي أمريكي. وتكرر ذلك في اتفاقات مع حكومتي نيكارغوا وهندوراس، كما اتبعت سياسات مماثلة في العلاقات مع الفليبين، وغيرها من دول الشرق الأقصى في الفترة التي سبقت الحرب العالمية الأولى” (2).

لم تكن هناك أي شائبة تلحق بالانتخابات الرئاسية في “تشيلي” والتي أوصلت “سلفادور أليندي” (3) إلى سدة الحكم عام 1970 ولكن الولايات المتحدة لم تكن سعيدة بالديمقراطية التي أوصلت رجلاً بتوجهات اشتراكية إلى الرئاسة في البلد الذي تدر فيه “مناجم النحاس” أرباحاً كبيرة لواشنطن. فدبرت الولايات المتحدة بالتعاون مع الجيش والقوى المؤيدة لها انقلاباً عسكرياً دموياً لم يكتف بإطاحة الرئيس المنتخب عن الحكم، بل قام الانقلابيون بقتله، وفي القصر الرئاسي نفسه.(4).

تقيم الولايات المتحدة الأمريكية علاقات وثيقة سياسية واقتصادية وعسكرية وأمنية مع نظم وحكومات شديدة التخلف، وموغلة في استبدادها وقهر شعوبها. كما تقيم علاقات متعددة المجالات، وتقدم حماية شبه كاملة لدول وحكومات معتدية، وتصفها بأفضل الأوصاف. وتناصب العداء دولاً تتمسك بسيادتها الوطنية وتسعى من أجل تقدم اقتصادها ورفاه شعوبها، وتصفها بأقذع الأوصاف. والمعيار ما بين العلاقة والوثيقة والحماية والرعاية، وما بين العداء والتهديد والحصار، هو مدى ملائمة نظام ما للمصلحة الأمريكية أولاً، بل وقبل كل شيء.

يلاحظ المفكر السياسي الأمريكي “ستانلي هوفمان” أن كل أمة ” تعتبر نفسها مميزة بنحو ما. وحدها الولايات المتحدة حاولت تطوير سياسات خارجية تعكس تميزها. وفيما تكتفي سائر البلدان أو تضطر إلى ممارسة سياسة توازن قوى في العالم، رأى القادة الأمريكيون منذ البدء أن الولايات المتحدة، بحكم موقعها الجغرافي الفريد وتفوق قيمها، لا بل عالمية قيمها، تستطيع ويتوجب عليها أن تنتهج سياسة استعلائية” (5).

من المتصور أن ” الاستعلاء” ناجم عن فائض القوة الذي تمتلكه الولايات المتحدة، ولكن النزوع الإمبراطوري الأمريكي، يستند أيضاً إلى أبعاد سياسية واقتصادية وثقافية. ذلك أن الحديث عن “امركة العالم” ونشر منظومة القيم الأمريكية في الاقتصاد والثقافة، وحكم العالم أيضاً، لا تغيب عن الخطاب الأمريكي (6) ويمكن الافتراض أن السياسات الإمبراطورية عامة تنزع نحو التوسع والهيمنة والتسلط وتعميم أنساق ثقافية، ولكن للولايات المتحدة فرادتها هنا أيضاً، وذلك انسجاماً مع التطور الذي شهده العالم على صعد نوعية الأسلحة وحجم الاقتصاد وثورة المواصلات والاتصالات. فقد خرجت الولايات المتحدة إلى العالم بعد الحرب العالمية الثانية، وهي تمتلك أعتى قوة عسكرية، وأضخم اقتصاد مقابل عالم مدمر. وقبل كل ذلك “نزعة تدخلية” مقابل “نزعة الانعزال” السابقة، والتي سادت في أمريكا بعد فترة من الحروب. وارتبط الحضور الأمريكي الجديد، مع تلاشي أوضمور الإمبراطوريات التي كانت مهيمنة على العالم مثل الإمبراطورية البريطانية والفرنسية واليابانية وغيرها. حافظت الولايات المتحدة على ” تمركز الإنتاج وسيطرة الكارتيلات وهيمنة المصارف على الصناعة، واستثمار رأس المال على نطاق عالمي” (7). وقد تبدت معالم السياسة الخارجية الأمريكية بعد الحرب، على النحو الآتي: ” 1- الإبقاء على الطابع الأساسي للعلاقات الدولية من حيث كونها علاقات بين دول كبرى ودول صغرى من النواحي السياسية والعسكرية، وبين دول صناعية مصدرة للبضائع واخدمات والتكنولوجيا المرتفعة الثمن والرساميل الباهظة(..) ودول متخلفة تصدر المواد الأولية بثمن زهيد وتستورد البضائع المصنعو مرتفعة الثمن. 2- تثبيت الطابع العميل للاقتصاد في الدول النامية. 3- إقامة أحلاف عسكرية تربط دول العالم الثالث بعجلة الإمبريالية الأمريكية الجديدة. 4- خلق مشاكل إقليمية وزرع كيانات مصطنعة. 5- تثبيت كيانات التجزئة. 6- تعزيز الأشكال الخفية من النفوذ والتأثير الاستعماري عبر الثقافة والتعليم. 7- السيطرة على الإعلام العالمي. 8- محاربة التقدم العلمي وحجب فرص الاستقلال والتطور في المجالات التكنولوجية والعلمية والثقافية في العالم الثالث. 9- تشجيع ظاهرة هجرة الأدمغة إلى الولايات المتحدة.” (8).

وسط هذه المعالم للسياسة الخارجية انخرطت الولايات المتحدة في “الحرب الباردة” بمواجهة الاتحاد السوفياتي والمنظومة الاشتراكية. وبرزت نزعتها التدخلية على نطاق واسع، وخاضت حروباً طويلة في جنوب شرق آسيا (فيتنام-لاوس-كمبوديا)، ونفذت عشرات العمليات السرية والعلنية في غير مكان من العالم بهدف الدفاع عن “مصالح الولايات المتحدة، والعالم الغربي”. لكها حتى ذلك الوقت ظلت تعمل وتنسق مع دول أخرى، “من دون إهمال سوء الظن الأمريكي تجاه أنماط الأحلاف الأوروبية، إلا أن السجال ظل دائراً حول طبيعة الموقع الجغرافي والديموقراطية، وحول التنحي والالتحام، الواقعية والمثالية” (9)

تغير الوضع مع انهيار الاتحاد السوفياتي والمنظومة الاشتراكية مطلع تسعينيات القرن العشرين. زال الخطر الشيوعي الذي شكل لعقود “محفزاً إستراتيجياً” للسياسة الخارجية الأمريكية، ومع البحث عن محفز إستراتيجي جديد، سوف يظهر بعد وقت قصير متمثلاً بخطر “الإسلام المتطرف”، أعادت الولايات المتحدة توجيه الجهد الإستراتيجي نحو مسارين: الأول: استيعاب الدول الخارجة من الفلك السوفياتي، وتعميم نسقها الاقتصادي فيها، وتجلى الثاني: في اعتبارها أن الفرصة سانحة للانفراد بقيادة العالم. وهو ما أطلق عليه لاحقاً اسم “النظام العالمي الجديد”.

يلاحظ د “ماجد الزاملي” أنه يمكن رصد مسار تصاعدي من الأدنى نحو الأعلى في النزعة التدخلية الأمريكية، مشيراً إلى التطور الكبير (ربما النقلة الكبرى) مع الدمج بين العولمة والاستراتيجية الأمريكية العليا في عام 1993 “وفقاً لورقة ليك الذائعة الصيت والمقدمة في معهد جون هوبكنز للدراسات الدولية المتقدمة حيث لخص أربع ضرورات أساسية تقوم عليها الإستراتيجية الأمريكية وهي: أولاً: تعزيز أسرة أنظمة السوق الديمقراطية الرئيسية بما فيها النظام الأمريكي، لكونها تشكل النواة التي تنطلق منها عملية التوسيع .ثانياً: رعاية الأنظمة الديمقراطية الجديدة واقتصاديات السوق ومساعدتها حيثما أمكن، ولاسيما في الدول ذات الأهمية والفرص الاستثنائية . ثالثاً: التصدي للعدوان ودعم إشاعة اللبرالية في الدول المعادية للديمقراطية والسوق. رابعاً: متابعة برنامجنا الإنساني ليس من خلال توفير المساعدات فقط ولكن عبر العمل على تمكين الديمقراطية واقتصاد السوق من مد الجذور في مناطق ذات أهمية إنسانية كبرى.

إن نمو نزعة التدخل العسكري اعتبارا من أوائل التسعينات وهو التاريخ الذي بدأ يشهد القفزة الكبرى في وضع الشركات متعددة الجنسيات، هكذا اندمجت مصالح العولمة مع التعريف الموسع للأمن القومي، ومنذ ذلك التاريخ شهد العالم تطبيقات متلاحقة مثل التدخل في هايتي، قصف العراق، قصف صربيا، قصف مواقع في السودان، احتلال أفغانستان وأخيرا العراق. (10)

أما التفرد بقيادة العالم فظهر مع “مشروع التخطيط الدفاعي الذي أطلق عليه: إنجاز ديك تشيني، وهو الذي أطلق صرخة مدوية استدعت التخفيف من حدته قبل نشره. افترض هذا المشروع أن أكثر مميزات أمريكا فرادة تكمن في هيمنتها العسكرية، وطرح مشروع تشيني هذا فكرة أن اللجوء إلى كل من العمليات العسكرية أحادية الجانب، والحرب الوقائية بالإضافة إلى احتفاظ الولايات المتحدة بترسانة نووية ذات قوة كافية لردع تطوير برامج نووية في أماكن أخرى (خارج الولايات المتحدة) أصبحت جميعها تعد من السياسات الأمريكية التي تعتبر ملائمة، و(خلص مشروع تشيني إلى) أن تكون الولايات المتحدة وتستمر وتعمل على أساس أنها القوة العظمى الوحيدة في العالم” (11).

وضعت الولايات المتحدة رؤاها الجديدة قيد التنفيذ. وقد أغضبت هذه التوجهات أقرب حلفاء الولايات المتحدة في الغرب، ولكن واقعة 11/أيلول- سبتمبر/2001،(12) في نيويورك، أوجدت حالة من التعاطف العالمي مع أمريكا، استثمرته الأخيرة في التصرف على مستوى العالم بصيغة من يثأر لنفسه من “المعتدين عليه” فشنت حربين كبيرتين ضد أفغانستان والعراق، وفرضت حصارات على آخرين، قبل أن تراجع سياستها التدخلية، في عهد أوباما، وتتجه نحو خطاب “العزلة” مع “دونالد ترامب”. ولكن في كل هذه المراحل ظلت الولايات المتحدة تتحرك ضمن مصفوفة خطابها المعلن عن ” أمن العالم والديمقراطية والرخاء..ومصالح أمريكا”. الأخيرة هي الحاكمة دوماً، ونشهد خطاباً شعبوياً قومياً حول أمريكا يكاد يصورها اليوم كمستهدفة تدافع عن مصالحها ومصالح الأمريكيين. (12).

 

المبحث الثاني

مكونات وأهداف السياسة الأمريكية في الشرق الأوسط

يعنى مخططو السياسة الخارجية الأمريكية، بوضع تصورات ذات طابع عالمي. ويعتبرون أن كل بقعة في العالم تنطوي على أهمية ما بالنسبة للولايات المتحدة الأمريكية. ومن ثم يجري التركيز على أقاليم محددة أكثر من سواها وفق الاعتبارات الجيوستراتيجية، والأهداف العامة للسياسة الخارجية الأمريكية.

احتل “الشرق الأوسط” (13) مع وجود اختلافات حول تعيين حدوده ومجاله، مكانة كبيرة في تكوينات وتوجهات السياسة الأمريكية. هذا الاهتمام ليس حديثاً. ” كان أول من ابتكر لفظة الشرق الأوسط هو الإستراتيجي البحري الأمريكي الأميرال ،ألفرد ماهان، في سنة 1902، والذي لفت الانتباه إلى مصيره كمنطقة ضرورية ودائمة في المواجهة الإستراتيجية والجيوسياسية بين القوى المتناحرة” (14).

في تحليله لطرق صوغ السياسة الخارجية الأمريكية، يتحدث “وليم كوانت” عن ” المنظور الإستراتيجي أو منظور المصالح القومية، وهذا هو المنظور الذي يستخدم في أغلب الأحيان، وهو يركز على الرؤية العالمية. ومن هذه الزواية، فإنه ينظر إلى المنطقة – وبشكل حصري تقريباً – على أنها جزء من الميزان العالمي بين الكتلتين الجبارتين” (15).

من المفهوم أن ما يشير إليه “كوانت” يعود إلى زمن “الحرب الباردة” والصراع الغربي- السوفياتي على النفوذ في المنطقة والعالم. وإذا كان من المتيسر اعتبار ذلك الصراع ظرفياً، بمعنى أنه يخص حقبة محددة من تاريخ الصراع العالمي على الشرق الأوسط، والنظرة الأمريكية إلى المنطقة وتعيين دورها وأهدافها في هذا الصراع، فإن ثمة ما هو ثابت في السلوك الأمريكي، وثمة ما هو متغير، بمعنى إعادة تكييف السياسات الأمريكية دون تغيير جوهري كبير. ومن أجل تبين هذا السلوك ينبغي السعي إلى تحديد وفهم مكونات السياسة الأمريكية في الشرق الأوسط.

مكونات الإستراتيجية الأمريكية في الشرق الأوسط:

  1. الجيوسياسي: يحتل الشرق الأوسط مكانة القلب في العالم القديم (آسيا- أوروبا- أفريقيا) ومن ثم فإنه يشكل صلة وصل بين قارات هذا العالم. وتلعب الممرات المائية (قناة السويس، باب المندب، مضيق جبل طارق، مضيق هرمز) دوراً كيبراً في تسهيل المرور التجاري والعسكري. ورغم أن تطور وسائل المواصلات والاتصالات، قد دفع ببعض الإستراتيجيين إلى التقليل من أهمية الموقع الجغرافي للشرق الأوسط، إلا أن الولايات المتحدة ما زالت تعتبر المنطقة موقعاً إستراتيجياً يحظى بأهمية بالغة، بسبب قربه الشديد من أوروبا، ووجود إسرائيل فيه، وأهمية ممراته المائية البحرية للعالم كله. وتحرص الولايات المتحدة على الوجود المباشر في المنطقة (من خلال القواعد العسكرية، ونشر الأساطيل البحرية) وعلى حيازة نفوذ في غالبية الدول، والتشويش على كل من يناهض النفوذ الأمريكي.
  2. الجيواقتصادي:  يحتوي الشرق الأوسط على ثروات إستراتيجية هائلة، في طليعتها النفط الذي يمثل عصب الاقتصاد العالمي. ثمة من يربط بين الاكتشافات النفطية في المنطقة، عشرينيات القرن الماضي، وبين زيادة الاهتمام الأمريكي بها. وقد مثل هذا المكون أساساً في الكثير من التحركات والمشاريع الأمريكية في المنطقة. ومع أنه جرى التنظير لتخفيف الاعتماد على النفط وسياسات الطاقة البديلة، إلا أن للنفط دوره الأساس في الصناعة والاقتصاد العالميين. وتريد الولايات المتحدة على نحو دائم السيطرة على هذه الثروة وضمان استمرار إمداداتها وتوجيهها.
  3. الجيوعسكري: هناك من يربط بين حضور الولايات المتحدة الواسع على المسرح الدولي أثناء وبعد الحرب العالمية الثانية وبين حضور المكون الجيوعسكري في الإستراتيجية الأمريكية في المنطقة. هذا الربط يحيل إلى مرحلة الحرب الباردة ومواجهة النفوذ السوفياتي، حيث كانت هناك ثلاثة عناوين للوجود الأمريكي، وهي: مواجهة الخطر السوفياتي وحماية أوروبا القريبة من الشرق الأوسط، وحماية إسرائيل من “التهديدات العربية”، وحماية الأنظمة الحليفة للولايات المتحدة. وقد جرى باستمرار تطوير عناوين ومعطيات هذا المكون بما ينسجم والإستراتيجيات الأمريكية العليا، مثل الحفاظ على ميزان التسلح، ومنع الانتشار النووي (ما خلا إسرائيل بالطبع)، والبقاء على أهبة الاستعداد لمواجهة أي تهديد للمصالح الأمريكية، وصولاً إلى التدخل العسكري المباشر (ليبيا 1986) وشن الحروب الكاسحة (حرب تحرير الكويت، ومن ثم احتلال أفغانستان والعراق). ومع انتهاء الخطر الشيوعي، والتهديدات السوفياتية، جرى إحلال خطر “الإرهاب الإسلامي” محلهما، ما تطلب حضوراً أمريكياً عسكرياً مباشراً في المنطقة.
  4. الجيوثقافي: عدا عن الخطاب الأمريكي التقليدي عن “نشر الديموقراطية”، والنية في تعميم النسق الثقافي الأمريكي، يحضر “البعد الديني” بوصفه من أسس المكون “الجيوثقافي” في السياسة الأمريكية تجاه المنطقة وفيها. ويعود الاهتمام الأمريكي على هذا الصعيد إلى النصف الثاني من القرن التاسع عشر. لقد ناقشت كتب كثيرة، ودراسات جادة مدى تأثير البعد الديني في السياسات الأمريكية، وأعادت الربط بين الاستيطان الأوروبي في شمال أمريكا، والذي نشأت بنتيجته الولايات المتحدة الأمريكية، وبين الاستيطان الصهيوني الذي أنشاً ” دولة إسرائيل” على أنقاض الشعب الفلسطيني. كما ناقشت منطلقات الكنيسة البروتستانتية، والحديث من سياسيين ورجال دين أمريكيين، عن أن ” الله يبارك أمريكا، بسبب دعمها لإسرائيل”. وكذلك عن الربط “المسيحاني” بين ” عودة المسيح المخلص” وبين “قيام إسرائيل” وصولاً إلى ضرورة دعم إسرائيل وتمكينها من الحصول على السلاح النووي، لخوض معركة “هار مجدون”. (16). وليس بعيداً عن هذا قامت رؤى المحافظين الجدد على العداء للإسلام واعتباره “عنيفاً بذاته” ورؤى الرئيس الأمريكي الحالي “دونالد ترامب” المعادية للإسلام، واعتباره راديكالياً ومتطرفاً، ودون تمييز.

أهداف السياسة الأمريكية في الشرق الأوسط:

استناداً إلى قراءة المكونات أعلاه، وتتبع تمظهرات السلوك الأمريكي في الشرق الأوسط يمكن تحديد جملة الأهداف والغايات الأساسية للسياسة الأمريكية في الشرق الأوسط على النحو الآتي، مع ملاحظة أن هذه الأهداف مستمرة وثابتة إلى حد كبير جداً:

  1. السيطرة على النفط: وهذا الهدف يشمل السيطرة المباشرة، والإشراف على ضمان إمدادات النفط إلى أوروبا والدول الأخرى، والتدخل في الأسواق لناحيتي الإمداد والتسعير، مع ضمان حصة أساسية للشركات الأمريكية في أعمال التنقيب والحفر والاستخراج والتسويق، ومناهضة سياسات التأميم ودور الشركات الوطنية. كما يشمل إطلالة مباشرة على الممرات التي تحمل الإمدادات النفطية، والتحكم بمصير عائدات النفط الضخمة، وضمان حصة استثمارية وازنة منها. إما على شكل ودائع، أو ثمناً لبضائع باهظة الثمن.
  2. حماية إسرائيل وضمان تفوقها العسكري: ربما لا يمكن العثور على ما يوازي التأكيد على “حفظ أمن إسرائيل وضمان تفوقها” في مجمل الخطاب الأمريكي الخاص بالسياسات الخارجية. ويتبارى المسؤولون الأمريكيون من كل المستويات، في تقديم تلك السردية عن واجبات الولايات المتحدة والتزامها المطلق بأمن “دولة إسرائيل”. وعلى عكس ما يبدو من تناقض حقيقي بين كثير من مكونات الخطاب السياسي الأمريكي، وبين السلوك العملي على الأرض، فإن الالتزام الأمريكي تجاه الدولة “الإسرائيلية” يتسم بالجدية الكاملة، والتنفيذ العملي لما هو معلن، حيث تتلقى “إسرائيل” مساعدات عسكرية ضخمة جداً، كما تتلقى مساعدات اقتصادية هائلة، حتى أن هناك من يرى الاقتصاد “الإسرائيلي” اقتصاداً متعيشاً على الولايات المتحدة. وفي سياق الحماية الأمريكية، ومنع ما يوصف بـ “التهديد لأمن إسرائيل” تحرص الولايات المتحدة على مجابهة أي طرف يعلن العداء للدولة “الإسرائيلية” أو يقاوم عدوانها. وقد حدد “مالكوم كير” جملة مبادىء تشكل الثقافة السياسية الأمريكية تجاه إسرائيل (فضلاً عن البعد الثقافي/الديني) وهي: – إ إسرائيل ليست هدفاً لتعهد أمريكي قائم بذاته، بل هي أيضاً مصدر قوة ونفع لأمريكا في المجالات العسكرية والسياسية والخلقية، – إن موضوع التطلعات الوطنية الفلسطينية يجب أن يوضع جانباً عند صوغ أية تسوية للمشكلة العربية- الإسرائيلية، لأن هذه التطلعات تغذى بصورة مصطنعة وخبيثة، – إن الموضوع الرئيسي هو الرفض العربي لقبول وجود إسرائيل، ويعود ذلك إلى تعقيدات نفسية خاصة بالعرب وحدهم، – ليس الحل أمراً أساسياً على أي حال، لأنه ينقص العرب الاهتمام والقدرة والإرادة على فعل الكثير من أجل التسوية”. (17)
  3. التحكم في خارطة القوى السياسية: تسعى الولايات المتحدة إلى الإبقاء على أكبر قدر من الحلفاء الفاعلين في المنطقة. وهي لا تتردد في التدخل بأشكال مختلفة، مباشرة وغير مباشرة، وعلنية وسرية من أجل منع قوى مناهضة لها من الاستقرار أو التمدد، أو اكتساب عناصر قوة إضافية. كما لا تتردد في دعم الحلفاء بأشكال مختلفة، لضمان سيطرتها ونفوذها. وبالمقابل السعي لتقويض القوى التي ترتبط بعلاقات إستراتيجية أو شبه إستراتيجية مع قوى دولية تشكل خصماً للولايات المتحدة، على غرار الاتحاد السوفياتي في مرحلة الحرب الباردة.

 

الفصل الثاني

السمات الجيوستراتيجية للسياسة الأمريكية

المبحث الأول

السمات الجيوستراتيجية للسياسة الأمريكية في الشرق الأوسط

 

لما كانت مكونات الجيوستراتيجية الأمريكية في منطقة الشرق الأوسط متعددة، وتشمل أبعادا سياسية واقتصادية وعسكرية وثقافية، فمن الطبيعي أن تكون سمات تلك الجيوستراتيجية متعددة ومتشابكة أيضاً، وربما تشبه إلى حد كبير حجم التشابك والتعقيد اللذين يتسم بهما الوضع في الإقليم، ذي الأهمية القصوى في ميزان القوى الدولي.

ولكون الولايات المتحدة قوة كونية، تنفذ جملة متشابكة من السياسات على مستوى العالم كله، فمن الطبيعي أن يتقاسم الإقليم الشرق أوسطي، بعض سمات السياسة الأمريكية، مع مناطق وأقاليم أخرى في العالم. ولكن وجود النفط من ناحية، ووجود “إسرائيل” من ناحية ثانية، يجعل من السياسة الخارجية الأمريكية في منطقة الشرق الأوسط، سياسة داخلية إلى حد كبير، تلعب فيها كارتلات النفط والسلاح والكنيسة دوراً كبيراً، بل ومقرراً في كثير من الأحيان. هنا يتداخل السياسي والاقتصادي والعسكري والثقافي، على نحو لا يشبه ما هو قائم في أقاليم ومناطق أخرى، وينتج سياسات محددة تجاه المنطقة، أو بروزاً فائضاً لنزعات تسم السياسة الخارجية الأمريكية عامة بميسمها. ومن ذلك “نزعة التدخل”.

يلاحظ “ريتشارد فولك” أن ” سياسة أمريكا الخارجية تجاه الشرق الأوسط تنطلق مما يسميه التوجه الإمبريالي، وأن صانعي السياسة على ما يبدو، ينقصهم التخيل للبحث عن سبيل غير عسكري ناجح لحماية المصالح الأميركية والغربية” (18)..

لا تخفي الولايات المتحدة أهدافها الثلاثة المعلنة لسياستها في الشرق الأوسط. (النفط وإسرائيل والتحكم في خارطة القوى السياسية) ولكنها لا تتحدث كثيراً عن الوسائط لتحقيق هذه الأهداف، والتي تتمظهر من خلال السلوك العملي الأمريكي، سواء المباشر، أم المغلف بعناوين أخرى، مثل ” السلام والاستقرار ونشر الديمقراطية، ومواجهة الخطر الشيوعي سابقاً، والإرهاب الإسلامي تالياً”. ومن خلال متابعة هذا السلوك يمكن استنباط السمات الآتية للجيوستراتيجية الأمريكية في الشرق الأوسط:

  1. التخل العسكري المباشر: نال الشرق الأوسط وخاصة الدول العربية حصة من التدخلات الأمريكية العسكرية المباشرة في العالم. ومن ذلك التدخل في إيران (1980) لإنقاذ رهائن أمريكيين، وفي لبنان عام 1983، وليبيا 1986 و2011، والعراق 1991، و2003، والصومال 1992، و وأفغانستان 1998، 2001، والسودان 1998، واليمن 2001 وحتى الآن، وسوريا 2012. وأخذ هذا التدخل إما شكل ضربات عسكرية وهجمات جوية، وإما شكل الحرب الشاملة والاحتلال. وتم تحت عناوين متعددة، من قبيل حماية مواطنين أمريكيين، الدفاع عن المصالح الأمريكية، الدفاع عن السلام والاستقرار، “محاربة الإرهاب”، “مواجهة محور الشر”. وعند تفكيك هذه العناوين سنجد الأهداف الأمريكية في السيطرة والنفوذ وضرب مناهضي السياسة الأمريكة، وتقليص قوة المعادين لسياسة أمريكا.
  2. التدخل العسكري غير المباشر: وهو يأخذ شكلاً علنياً يتمثل في إقامة القواعد العسكرية خاصة في الدول التي تملك ثروات نفطية كبيرة (ليبيا حتى عام 1969، والسعودية وقطر، والبحرين والكويت والعراق بعد 2003، وغيرها) وفي دول أخرى تملك موقعاً استراتيجياً على صلة بالأهداف الأمريكية الأساسية (الأردن) ونشر الأساطيل البحرية (الأسطول السادس في البحر المتوسط، والأسطول الخامس في الخليج). كما أن للتدخل غير المباشر وجهاً سرياً مثل عمليات المخابرات والنشاطات السرية (الإطاحة بحكومة مصدق في إيران، دعم ورعاية انقلابات عسكرية) ودعم اتجاهات انفصالية (السودان، مصر، العراق، سوريا). ودعم قوى “محلية” تسمى بـ” المجتمع المدني” في عدد من البلدان لتغذية الانقسامات والتشويش على الحكومات التي تناهض السياسة الأمريكية أو لا تستجيب لمتطلباتها. وغير خاف أن الغالبية العظمى من الدول التي شهدت تدخلات عسكرية مباشرة أو غير مباشرة، هي من الدول التي تعادي “إسرائيل” بطريقة أو بأخرى، أو أنها لا تتوافق مع السياسات الأمريكية.
  3. العقوبات والحصار: تلجأ الولايات المتحدة إلى استخدام أطر قانونية أمريكية، أو دولية (عبر المنظمة الدولية) لفرض عقوبات اقتصادية وسياسية، ومحاصرة الدول التي لا تتوافق مع السياسة الأمريكية، وأيضاً تحت عناوين مواجهة الأخطار على السلم العالمي، أو منع التمدد الشيوعي، أو الإرهاب، أو مخالفة المعايير الديمقراطية. واعتماد أنظمة العقوبات والحصار قديم في السياسة الأمريكية (منعت الولايات المتحدة تمويل مشروع السد العالي في مصر، بسبب توجهات الرئيس عبد الناصر وعلاقته مع الاتحاد السوفياتي ودول المنظومة الاشتراكية، وفرضت عقوبات على سوريا في الثمانينات بسبب دعمها فصائل المقاومة الفلسطينية، وفرضت حصاراًعلى ليبيا بحجة دعم الإرهاب، ثم على العراق بعد احتلاله الكويت وطرده منها، ثم عقوبات على إيران بسبب برنامجها النووي، وعلى السودان بدعوى رعاية الإرهاب، ومن ثم عادت وفرضت عقوبات على سوريا مجدداً). وتنفرد الولايات المتحدة أحياناً في اتخاذ قرارات العقوبات والحصار، بحيث تتولى المؤسسات الأمريكية تنفيذه، وتتوسع أحياناً أخرى لتجعل القرار بطابع دولي، عبر استصداره من المنظمة الدولية. وحتى في حالات الانفراد فإن الولايات المتحدة، توقع عقوبات على من يقوم بانتهاك قرارها المنفرد من الدول والحكومات والشركات. ومرة أخرى فإن التدقيق في قائمة الدول التي أخضعت للعقوبات والحصار، يبين أنها معادية لـ”إسرائيل”، وعلاقتها بواشنطن ليست جيدة أو أنها تخل في سياستها بتوزيع نفوذ القوى في الشرق الأوسط.
  4. الضغط الدبلوماسي: وهو يأخذ أشكالاً متعددة فقد تلجأ الولايات المتحدة إلى الضغط الدبلوماسي المباشر على الدول من أجل تنفيذ مطالب معينة، مشفوعاً بتهديدات مباشرة وغير مباشرة (زيارة كولن باول إلى سوريا وطلبه من الرئيس السوري، طرد المنظمات الفلسطينية من سوريا، والتلويح بوجود القوات الأمريكية على الحدود السورية مع العراق، ومطالبة السلطات المصرية بإطلاق سراح معتقلين ووقف ملاحقات..).
  5. الدبلوماسية السرية: تلجأ الولايات المتحدة إلى الدبلوماسية السرية، إما لغايات الضغط الذي لا تريده علنياً، وقد يشمل تدخلات سرية من خلال أنشطة وكالات المخابرات الأمريكية (ليبيا مثلاً في زمن القذافي) وإما لتكييف توجهات قوى سياسية مع الأهداف الأمريكية (الحوار غير العلني مع منظمة التحرير الفلسطينية).
  6. تكييف الاقتصادات الوطنية ودعم النزعات الاستهلاكية: تشجع الولايات المتحدة إقامة الروابط الاقتصادية مع الدول، بالقدر الذي تخدم فيه هذه الروابط المصالح الأمريكية. وتعتمد لإقامة هذه الروابط كما لتمرير القروض من الولايات المتحدة أو البنك الدولي، على تكييف الاقتصادات الوطنية مع السياسات الأمريكية، ونظريات السوق المفتوح، والحرية الاقتصادية. وعادة ما يتم طلب القيام بإعادة الهيكلة الاقتصادية، ما يتسبب في القضاء على القطاع العام الضخم (مصر مثلاً) وزيادة الفوارق الاجتماعية، وهو ما يتيح للولايات المتحدة، ليس ربط تلك الاقتصادات بها وحسب بل وأيضاً ربط هذه الدول بالأهداف الأمريكية، لحفظ استقرارها (يمكن الربط بيسر بين المعونة الاقتصادية الأمريكية لمصر، والتي باتت محتاجة لها بقوة بعد إعادة الهيكلة وتقويض القطاع العام وبين مجمل السياسات المصرية المعتمدة منذ نهاية السبعينيات من القرن الماضي وحتى الآن، بالرغم من تبدل النظم الحاكمة). وتحرص الولايات المتحدة على تعميم النزعات الاستهلاكية وفتح الباب أمام تدفق السلع غير الأساسية، وحجب المكونات الصناعية الهامة.
  7. إعاقة التقدم التكنولوجي: تضع الولايات المتحدة قيوداً مشددة على تصدير التكنولوجيا المتقدمة إلى العالم الثالث، ومنه إقليم الشرق الأوسط ما خلا “إسرائيل”. وقد جاء فرض العقوبات والحصار في كثير من الأحيان ليطاول دولاً حاولت الحصول على تكنولوجيا متقدمة، عبر دول أخرى، وتطوير جهودها الوطنية في هذا المجال (إيران والعراق مثلاً). وحتى في حال وجود علاقات وثيقة بين دول في الإقليم، وبين الولايات المتحدة، يظل الحظر على التقنيات المتقدمة قائماً. ويتصل هذا الحظر في جانب أساسي منه بضمان تفوق “إسرائيل” التقني.
  8. تكييف التعليم: بادرت الولايات المتحدة مبكراً إلى إيفاد بعثات ومؤسسات تعليمية إلى المنطقة بهدف الإطلال المباشر على قطاعات أساسية في المجتمعات العربية والشرق أوسطية. وعدا عن استقطاب العقول والأدمغة إلى الولايات المتحدة، توجه الولايات المتحدة بالإيعاز والضغط، سياسات تعليمية محددة، تتناسب مخرجاتها مع السياسات الأمريكية.
  9. تغذية التوترات في الإقليم: تساعد الولايات المتحدة “إسرائيل” على تنفيذ عدوانها المستمر على الشعب الفلسطيني، وشعوب المنطقة. وتحيط الدولة المعتدية بغطاء كامل، يمنع المؤسسات الدولية من التحرك لمعاقبتها. وتشجع الولايات المتحدة وتغذي الانقسامات الطائفية والمذهبية والعرقية. كما تعقد صفقات تسلح ضخمة مع دول أبعد ما تكون في سلوكها العملي عن المعايير الأمريكية المتعلقة بحقوق الإنسان والديموقراطية. وتجند مخرجات هذا الواقع المتأزم لصالح المزيد من السيطرة والهيمنة.
  10. الاحتواء المزدوج: برز هذا المصطلح مع صعود إدارة “بيل كلينتون” إلى السلطة عام 1992، وكان التعبير دالاً على السياسة الأمريكية تجاه العراق وإيران، وتعني ” منع البلدين من التوسع أو دعم الإرهاب”(19) والإضرار بمصالح الولايات المتحدة، وعاد التعبير للتداول في مواجهة التحالف السوري- الإيراني حيث حكي عن احتواء مزدوج لإيران وسوريا.

 

المبحث الثاني

الثابت والمتحول في السمات الجيوستراتيجية للسياسة الأمريكية في الشرق الأوسط

 

عندما نتحدث عن المتحول في السمات الجيوستراتيجية للسياسة الأمريكية في الشرق الأوسط، فمن المتصور أن الحديث لا يدور عن الأهداف الأساسية للسياسات الأمريكية، فهذه تتسم بثبات واضح. بل ربما يكون حديثاً أكثر صلة بالشكل الذي تتمظهر فيه هذه السمات، وفي جذر كل ذلك، تغيير ما يعرف بـ “المنشط (أو المحفز)الإستراتيجي”. فغالباً ما يشار إلى أن السياسة الأمريكية عرضة للتبدلات مع تغيير الإدارات، والدور الذي يكون للرئيس الأمريكي، ومدى نفوذ اللوبيات، والكارتلات الكبرى، وخاصة كارتل السلاح، وكارتل النفط. كما يشار إلى أن التطورات العالمية من قبيل تنامي دور الشركات متعددة الجنسية وصعود أقطاب عالمية وإقليمية تلعب جميعها دوراً في التغييرات التي تلحق بالسياسات الأمريكية. ولكن من الملاحظ أن الأهداف السياسية الأمريكية في الشرق الأوسط بقيت على حالها.

فما زالت الولايات المتحدة تضع في رأس أهدافها: “حماية وضمان تفوق إسرائيل، والسيطرة على النفط، والتحكم في خارطة القوى السياسية”. ولكن التغيرات التي لحقت بالعالم والإقليم معاً، أملت تغييراً بهذا القدر أو ذاك على السمات الجيوستراتيجية للسياسة الأمريكية في الشرق الأوسط.

بنت الولايات المتحدة جانباً كبيراً من سياساتها في الشرق الأوسط على وجود “تهديد شيوعي” لمصالحها وأهدافها الحيوية في الشرق الأوسط، فحكي طويلاً عن خطر “هجوم سوفياتي” على منابع النفط، وعن هجوم مماثل قد تتعرض له “إسرائيل”، وكذلك عن تهديد الشيوعية لاستقرار دول المنطقة، وأمنها وسلامها واستقرارها. وجرى تضخيم هذه التهديدات إلى حد يثير السخرية عند محاولة إيجاد مطابقة بين الواقع، وبين معطيات السياسة الإعلامية الأمريكية، أو تلك التي تسير بتوجيه منها. وفي السنوات الأخيرة من عمر الشيوعية صك الأمريكيون تعبير “إمبراطورية الشر” (20) في وصف الاتحاد السوفياتي والمنظومة الدائرة في فلكه.

انهار الاتحاد السوفياتي، وهوت “إمبراطورية الشر” ليهوي معها “منشط إستراتيجي” أمريكي لطالما جرى استخدامه لحروب ومواجهات وتدخلات في غير مكان من العالم. وبدا أن على الولايات المتحدة إيجاد بديل للإمبرطورية المنهارة، تسوغ بها تدخلاتها وحروبها واستمرار المواجهة. خاصة وقد اعتبرت أنها القطب الأوحد في العالم، والدولة التي ستكون قادرة على نشر قيم الخير، وبناء عالم جديد. تكون مطلقة اليد فيه وبالطرق التي تراها مناسبة. برزت ” فئة الإمبريالية الجديدة، ومن أتباعها العالمان، تشارلز كراوثامر، و ويليام كريستول. تعتبر هذه الفئة أن الخير الذي تقدمه الولايات المتحدة للعالم، يبرر جميع الوسائل التي تتبعها” (21). وعماياً أعادت الولايات المتحدة تنصيب نفسها رأساً للخير في العالم، أما الشر فقد انتقلت رايته من الشيوعية إلى “الإسلام”. وهنا كان الانعكاس مباشراً على الشرق الأوسط، ذي الغالبية الإسلامية الساحقة.

سوف يكون هناك من يثير حديثاً عن “نظرية المؤامرة” (22) لإيجاد رابط بين تعيين “الإسلام عدواً للولايات المتحدة”، وبين التفجيرات التي ضربت نيويورك في 11/ أيلول- سبتمبر/2001، وتبناها “تنظيم القاعدة” الذي ورث حركات الجهاد التي رعتها واشنطن في أفغانستان لمواجهة السوفيات. وهي التفجيرات التي تسببت في نقل الولايات المتحدة من موقع تعيين العدو إلى موقع ضرب العدو فكانت حربا احتلال أفغانستان والعراق.

في السياق المقابل كان الإقليم يشهد تغيرات كبيرة، ومتناقضة في آن معاً. ففي حين بدا النظام الرسمي مسكوناً بالخوف، استطاعت حركات المقاومة (وهي إسلامية) تسجيل منجزات في لبنان وفلسطين. وبينما تهاوت دول تحت وطأة الاحتلال الأمريكي، برزت قوى بطموحات إقليمية (إيران)، وفي حين فشل “النظام الإقليمي العربي” في استعادة دوره الذي تلقى ضربة قاسية عام 1990، برز دور تجمعات إقليمية (مجلس التعاون الخليجي) لتنوب عن النظام المنهار. ولتزيد في اعتمادها على الحماية الأمريكية المباشرة، وغير المباشرة. ومع النجاح الذي سجلته حركات المقاومة في تقييد “العداونية الإسرائيلية”، ازداد الدعم الأمريكي للدولة المعتدية، مع تسجيل محاولات لتكييفها مع مشروع للتسوية اعتبرته واشنطن في مصلحة “إسرائيل” أولاً. وخاصة مع انهيار الإجماع العربي على القضية الفلسطينية، وما يتردد عن علاقات تبنيها دول عربية عدة مع دولة الاحتلال الإسرائيلي.

استمرت الكثير من السمات المعروفة للجيوستراتيجية الأمريكية على حالها مع المتغيرات التي شهدها العالم والإقليم، مع ملاحظة الآتي:

  1. ارتفاع منسوب التدخل المباشر: شهدنا فصولاً منه في أفغانستان والعراق وليبيا وسوريا، وذلك رغم أن “باراك أوباما” افتتح عهده بالوعد بتقليص التدخل الخارجي، فقد غادر السلطة مع وجود قوات إضافية في العراق، وأفغانستان، وسوريا، وغارات على ليبيا.
  2. ارتفاع منسوب التدخل غير المباشر: فقد جرى تكثيف الوجود الأمريكي في قواعد أمريكية في قطر والكويت والسعودية، وبلدان أخرى.
  3. الاستمرار في اعتماد سياسات المقاطعة والحصار الاقتصادي: تبرز اليوم في سوريا، وفي إيران رغم توقيع الاتفاق النووي.
  4. تقييد طموحات القوى الإقليمية: تشن الولايات المتحدة منذ سنوات هجوماً متعدد الأشكال على إيران غاب عنه فقط العمل العسكري المباشر، وذلك بهدف تقييد القوة الإيرانية. تنقل عن نائب وزير الدفاع الأمريكي السابق ” بول وولفيتز” دعوته إلى “ضرورة ردع أي قوة محتملة تتطلع للقيام بدور عالمي أو إقليمي” (23). ورغم توقيع اتفاق مع إيران حول مشروعها النووي، ما زالت الولايات المتحدة، توجه انتقادات عنيفة للدور الإيراني، وتطلب إلى إيران الكف عما تسميه ” تدخلاتها” في دول الإقليم.
  5. تشديد الخطاب حول الإرهاب الإسلامي، والخلط المتعمد بين المقاومة المشروع للاحتلال وبين الإرهاب، خصوصاً حين يتعلق الأمر بالقوى والمنظمات التي تواجه الاحتلال الصهيوني في فلسطين وعدوانه على لبنان.
  6. تغذية الانقسامات الطائفية والمذهبية والعرقية وتأجيجها، ودعم التوجهات الانفصالية.
  7. السفور في دعم قوى متخلفة ونظم استبدادية، ومقاتلة أخرى تحت دعوى الاستبداد. الفيصل هنا هو المصالح الأمريكية.

في مطالع العام 2017، تسلم الشعبوي “دونالد ترامب” رئاسة الولايات المتحدة الأمريكية. منذ ترشح ترامب للرئاسة، والحديث يدور عن التغيير الجدي الذي قد يحدثه الرجل في السياسة الخارجية الأمريكية. وقد دار جدال كثير حول التغيير المتوقع من عدمه. وقد انخرط في هذا الجدال القائلون بدور أساسي للرئيس الأمريكي في السياسات الخارجية، ومن يرون أن السياسة الخارجية تقررها ” المؤسسة” التي يشكل الرئيس جزءاً منها. الأولون قالوا بتغيير كبير، والآخرون توقعوا تغييراً محدوداً.  وقد لاحظ أستاذ العلوم السياسية د “أسعد أبو خليل” “أن الحديث عن توجهات ترامب، يبقى في ظل التخمين لأننا نتعاطى مع شخصية لا خلفية سياسية معروفة لها، وأسلوبه في الحكم غير معروف لأنه لم يسبق له أن تسلم منصباً سياسياً تنفيذياً من قبل، لكن يمكن القول إن من العناصر الأولى في تحديد سياسة ترامب الخارجية ستكون توجهاته وغرائزه” (24)

أطلق ترامب مواقف كثيرة غير متسقة مع السياسة الأمريكية التقليدية تجاه موضوعات متعددة: المرأة، الهجرة، العلاقة مع أوروبا، والحلفاء، وروسيا والصين، والاقتصاد، والعولمة، والشركات متعددة الجنسية والاستثمارات الخارجية، والإسلام.

سوف نركز في ما تبقى من سطور هذه الورقة على السمات الجيوستراتيجية الأمريكية المتوقعة مع حلول ترامب في سدة الرئاسة الأمريكية:

  1. أثناء حملته الانتخابية تحدث “ترامب” عن ضرورة الحياد في “الصراع الفلسطيني- الإسرائيلي”، ثم عاد لتبني الخطاب التقليدي عن حماية ودعم “إسرائيل”، وصولاً إلى انتقاده إدارة أوباما، لسماحها بتمرير قرار في مجلس الأمن يدين الاستيطان الإسرائيلي في الضفة الغربية، ومن ثم حديثه عن “الشروع في نقل السفارة الأمريكية من تل أبيب إلى القدس”، ما يعني انحيازاً غير مسبوق لـ”إسرائيل”، ثم أعلن البيت الأبيض يوم 23/1/2017، أن “القرار يعني التزاما من الرئيس، ولكن تنفيذه سابق لأوانه”. حدث هذا الأمر مع جورج دبليو بوش، دون الحديث عن الشروع في الإجراءات. ستحدث كثير من هذه التناقضات مع الرئيس عديم الخبرة، لكن الانحياز المطلق لـ”إسرائيل سيبقى على حاله، وربما يشهد طفرات، تستفيد فيها “إسرائيل” من تعيين ترامب للإسلام عدواً دون تمييز. وكذلك من وجود فريق إلى جانب الرئيس من مناصري الصهيونية.
  2. وجه “ترامب” انتقادات حداة إلى دول الخليج العربي، وتحدث عن ضرورة أن يدفع هؤلاء ثمن الحماية المقدمة لهم. يمكن احتساب هذا الأمر في خانة الابتزاز الذي سيضخ أموالاً كثيرة في الخزائن الأمريكية، وسيكون قياس المصالح الأمريكية حكماً في تقرير شكل السلوك الأميركي اللاحق.
  3. ينتقد “ترامب” وفريقه الاتفاق النووي بين إيران والقوى الدولية، ويتحدث عن ضرورة إعادة النظر فيه. ويريد تقييد الحضور الإقليمي الإيراني. من المتوقع أن يعيد الرئيس الأمريكي حالة التوتر مع إيران. ربما لا يذهب إلى حد إلغاء الاتفاق، ولكنه يستطيع مواصلة عرقلة التنفيذ، ووضع عثرات في طريقه. كما يريد ” الحد من النفوذ الإيراني في سوريا والعراق”.
  4. في مجمل خطابه يظهر “ترامب” ميلاً إلى تبني سياسة “العزلة” عالمياً، والحد من “التدخلية”، لكنه يتحدث بكثافة عن “الحرب على الإرهاب”. والإرهاب بالنسبة له يتمثل في الإسلام، وليس في التنظيمات الإرهابية التكفيرية وحسب. من المتوقع أن يطلق هذا الخطاب موجة تدخل عنيف تطاول غير بلد إسلامي. وسوف يكون هناك خلط متعمد بين قوى المقاومة للاحتلال، وبين قوى الإرهاب التكفيري.
  5. لن تنعدم التأثيرات الاقتصادية على المنطقة، في حال توجه  “ترامب” إلى تطبيق مشروعه الاقتصادي، ستكون هناك انعكاسات لهذا البرنامج على نشاط الشركات والقروض.

 

خاتمة:

بالقدر الذي يتم فيه استهلاك كثير من الوقت في نقاش سياسات الرئيس الأمريكي الجديد، يمكن استذكار حقيقة أننا شهدنا نقاشات بنسبة تزيد أو تنقص، مع تولي إدارات سابقة سدة الرئاسة في الولايات المتحدة الأمريكية. ربما يفرض نمط الرجل وأسلوبه في التعبير، نوعاً من الاهتمام بمستويات مختلفة. ولكن عند وصول “أوباما” كان يدور حديث عن تغيير كبير، وكذلك مع “بوش الابن” وسواهما. ولكن المحصلة كانت تفيد دوماً بأن الثوابت في السياسة الأمريكية تبقى على حالها، ويكون التغيير غالباً على صورة “تكييف” للثوابت مع معطيات جديدة، تعني مزيداً من توجهات أمريكا إلى النفوذ والهيمنة وتحقيق المصالح لأمريكا أولاً.

نحن بإزاء إمبراطورية قوية، وما زالت تجمع المزيد من عناصر القوة، والأقوياء يملكون أكثر من سواهم ترف “التجريب” وحتى “اقتراف الأخطاء” والتراجع عنها بعد “خسائر هامشية”، وليست من حسابهم، أو على حسابهم تماماً.

ستظل الولايات المتحدة، وهي ترسم سياساتها في منطقتنا حريصة على “أمن إسرائيل” وحماية هذا القوة المعتدية لأسباب سياسية واقتصادية وثقافية. تدرك الولايات المتحدة أن قدرة “إسرائيل” على القيام بدور الوكيل الإمبريالي قد تراجعت، ولكن هذه الدولة ما زالت مصلحة أمريكية عليا.

وستحرص الولايات المتحدة على استمرار الهيمنة على النفط، الثروة الإستراتيجية في منطقتنا، وتجييرعائداته إلى صناديقها وبنوكها، ولن تلقي بالاً لرفاه شعوب المنطقة، ومصالحها. لا بل ستعمل ضد مصالح هذه الشعوب في خدمة المصلحة الأمريكية.

وستبقى الولايات المتحدة ناشطة في ضمان توزيع القوى في المنطقة على نحو يبقي على النفوذ الأمريكي قوياً ومهيمناً. ونظرة إلى أحداث ما يعرف بـ “الربيع العربي” سوف تفصح عن دلالات كثيرة.

تردد دوماُ أن أمريكا ليست قدراً. هذا صحيح. ولكن هناك من يستمرىء الضعف في العلاقة معها. ولا يتطلع إلى رسم جيوستراتجية تنهض بدول المنطقة، مقابل الجيوستراتيجية الأمريكية، لا بل إن البعض يقدم خدمات على طبق من ذهب لخدمة أمريكا، وهو يشهر خطاباً معادياً لها. جماعات الإرهاب التكفيري نموذج بدلالات كثيرة.

نافذ أبو حسنة  

الهوامش:

  1. تعريف الإستراتيجية والجيوستراتيجية، في: عابد، د سعود، الفرق بين الإستراتجية والجيوستراتيجية، صحيفة الرياض (الرياض) 20/1/2017.
  2. الكيالي، د عبد الوهاب (المؤلف الرئيسي، رئيس التحرير)، المؤسسة العربية للدراسات والنشر (بيروت)، الجزء الثاني، ص 669.
  3. سلفادور الليندي، طبيب وسياسي تشيلي، يحمل توجهات اشتراكية، انتخب رئيساً لتشيلي عام 1970، وقتله الانقلابيون عام 1973.
  4. شهدت تشيلي حقبة من القمع الدموي على يد الجنرال بينوشيت قائد الانقلاب. وعندما استنفذت واشنطن أغراضها منه، تعرض للملاحقة في أوروبا بسبب اقترافه جرائم.
  5. هوفمان، ستانلي. القهرية الأمريكية في خطة بوش للأمن القومي، تهافت الاستثنائية الجديدة. مجلة ” مدارات غربية” (بيروت- باريس) العدد الأول، أيار/مايو/ 2004.  ص58.
  6. نقل عن قس أمريكي قوله مطلع القرن العشرين “قدرنا أمركة العالم”. وقد تحدث قس آخر في حفل تنصيب ترامب يوم 20/1/2017، عن “قدر أمريكا في حكم العالم”.
  7. الكيالي، د عبد الوهاب، موسوعة السياسة، مصدر سبق ذكره، الجزء الأول ص 302.
  8. المصدر نفسه، ص 302، 303.
  9. هوفمان، ستانلي، المصدر السابق، ص 58.
  10. الزاملي، د ماجد أحمد. الأولويات في السياسة الخارجية الأمريكية، 27/11/2013. موقع الحزب الشيوعي العراقي على شبكة الانترنت.
  11. هوفمان، ستانلي. المصدر السابق.
  12. في حفل تنصيبه يوم 20/1/2017 بدا الرئيس الأمريكي وهو يلقي خطاباً صاخباً، متجاوزاً لكثير من الوقائع وهو يتحدث في مقاطع من الخطاب، عن الولايات المتحدة وكأنها “جمهورية موز” تواجه خطراً خارجياً داهماً.
  13. برز هذا المفهوم أواسط القرن التاسع عشر، واستخدم على نطاق واسع بعد أن استخدمه البحري الأمريكي ماهان. وكان للدلالة على المنطقة بين الجزيرة العربية والهند. وهناك من يعتبر الشرق الأوسط شاملاً المناطق التي تطل على البحر الأحمر، والبحر المتوسط وبحر العرب.
  14. بحيري، د مروان. الحقائق والأوهام في السياسة الخارجية في الشرق الأوسط. في: السياسة الأمريكية في الشرق الأوسط. ليلى بارودي، مروان بحيري (إعداد) مؤسسة الدراسات الفلسطينية، (بيروت) ط1، 1984 ص xI.
  15. كوانت، وليم ب. نزاع الشرق الأوسط في استراتيجية الولايات المتحدة، 1970- 1971، في بارودي، ليلى. بحيري، د مروان، مصدر سبق ذكره، ص1 وما بعد.
  16. مثلا، الحسن، د يوسف في كتابه: البعد الديني في السياسة الأمريكية تجاه الصراع العربي –الصهيوني (دراسة في الحركة المسيحية الأصولية الأمريكية)، سلسلة أطروحات الدكتوراة (15) مركز دراسات الوحدة العربية (بيروت) ط1 1990، ط4 2005.
  17. كير، مالكوم، السياسة الأميركية في الشرق الأوسط: كيسنجر، كارتر والمستقبل. في: بارودي، ليلى. وبحيري، د مروان، مصدر سبق ذكره ص 175.
  18. بحيري، مروان. مصدر سبق ذكره ص xv.
  19. كوانت، وليم ب. ما الذي تعنيه سياسة الاحتواء المزدوج؟ صحيفة الحياة (لندن) 19/7/1993.
  20. أطلق هذا التعبير، في وصف الاتحاد السوفياتي، الرئيس الأمريكي رونالد ريغان، عام 1987.
  21. هوفمان، ستانلي. مصدر سبق ذكره. ص 59.
  22. تحدث حتى بعض الأميركيين عن نظرية المؤامرة، ومنهم المؤلف والمخرج المسرحي “مايكل مور”.
  23. وردت عند الزاملي، د ماجد أحمد. مصدر سبق ذكره.
  24. أبو خليل، د أسعد.  ضرب الرمل: العناصر المقررة في سياسة ترامب الخارجية. صحيفة الأخبار (بيروت) 24/1/2017.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *