يمتلك المسؤلون الأمريكيون جراة نادرة على الكذب و الافتراء. وهم يطبقون منطقا يفترض أن “للقوي” الحق في أن يفعل مايشاء، ويقول ما يشاء أيضاً. هي حقائق القوة..
وهكذا، فإن المتحدثة باسم البيت الأبيض: دانا بيرنيو، تقول: “لا علم لي بغارات جوية شنتها إسرائيل على غزة . إسرائيل تعرضت لهجمات في الآونة الأخيرة من الجانب الأخر”. كانت هذه إجابة الناطقة الأمريكية على سؤال حول موقف إدارتها من اعتداءات الاحتلال، والتي أدت إلى سقوط أحد عشر شهيداً فلسطينيا، بينهم عدد من الأطفال، وأربعة من عائلة واحدة في غزة، خلال أواخر الشهر المنصرم.
سوف يكون مضجرا بعد ذلك أي حديث يهدف إلى تبيان حجم العداء الأمريكي الرسمي للشعب الفلسطيني، وما يقابله من احتضان كامل، وتبنِّ مطلق لسياسات الاحتلال الصهيوني، ودفاع جاهز عن كل جرائمه مهما بلغت، وليُترك جانبا كل ذلك الكلام عن “السلام”، فهون آخر الأمر “سلام القوة” الذي يعطي من يمتلك القدرة على القتل أن يقوم به، حتى تعلن “الضحية” استسلاماً كاملاً، وتصبح قابلة لما يُملى عليها، لتنال بركة تركها ترفل في ذل مقيم، موسومة “بالاعتدال والإصغاء إلى صوت العقل”.
وغالباً ما شكل الحديث الأمريكي عن “السلام” مادة خصبة للمحللين، الذين ضلوا يسوقون علينا ما مفاده: إن الإدارة الأمريكية تريد أن تقدم لحلفائها العرب شيئا في أخر المطاف، وهي لن تضحي بهم بالكامل، كما تريد أن تحفظ ماء وجههم. وفي هذا ما سيجعلها تضفي على مواقفها شيئا من التوازن، وتمارس بعض الضغط على الاحتلال.. وفي السنوات الأخيرة صار الشاهد على صحة تحليلاتهم، حديث الرئيس الأمريكي عن دولة فلسطينية قابلة للحياة.
صدّق البعض إلى أن كفت الإدارة الأمريكية نفسها عن عبارات المجاملة، وصارت أكثر وضوح في التعبير عن آرائها، ربما بعدما رأت أن غالبية الزعامات العرية لا يزعجها هذا الوضوح، وهي ليست – حقيقية- في وارد إزعاج واشنطن بـ”سفاسف” الأمور، من قبيل حرب الإبادة المفتوحة على الشعب الفلسطيني، والعراقي أيضاً، حتى أن هذه الزعامات ووسائل إعلامها أيضاً نجحت في جعل الموت الفلسطيني (والعراقي أيضاً) حالة اعتيادية لا تستوجب رفة جفن، ناهيك عن مجرد التذكير بأن واشنطن مسؤولة أساسية عن كل هذا الدم العربي المسفوك.
أكثر تلك الزعامات “جرأة” الأمريكين، من موقع الضعيف المستسلم للعجز، ففتحت أبواب العواصم لأولمرت، وحثته على مزيداً من الخطوات نحو “السلام”.
أي سلام؟ لا يهم، المهم أن العملية قائمة، وبقي أن يتحدث هؤلاء جهارا نهارا عن “حق اسرائيل في الحفاظ عن أمتها من اللحم الفلسطني العاري”.
على كل حال، فقد جاء كلام الناطقة الأمريكية متزامناً مع مقابلة منشورة للرئيس جورج بوش، تحدث فيها عن عناوين زيارته التي بدأت إلى منطقة الشرق الأوسط. الرئيس لم يأخذ علما بالغارات التي يقوم بها الاحتلال هو أيضاً، ولذلك فقد أوضح أنه قادم من أجل تنبيه العرب من الخطر الإيراني، وتشكيل جبهة لمواجهته.
وبتناغم من ” حاييم رامون” الذي سبقه إلى الحديث عن إزالة مستوطنات عشوائية، طالب بوش أيضاً بإزالة هذه المستوطنات، وتخلى عن وعوده السابقة بإنهاء المفاوضات في 2008، فاعتبر أن الجدوال الزمنية، قد تكون غير مريحة للطرفين.
سوف يدور حديث كثير حول زيارة بوش ونتائجها، وسنجد من يبيع الوهم بأنه يضغط على الصهاينة لإزالة مستوطنات، وستخذف كلمة “عشوائية”، فيقع الالتباس المقصود الذي تتأسس عليه سياسات ومواقف.
للتوضيح: هذه المستوطنات ليست مدرجة ضمن خارطة الاستيطان، وهي مرهقة ومكلفة للاحتلال. والوقف الجدي للاستيطان يعني إزالة المستوطنات التي يجعل وجودها من فكرة الدولة الفلسطينية كذبة كبيرة.
وبعد، يجدر الالتفات إلى تلك الوقائع المثيرة التي سبقت قدوم الرئيس الأمريكي في غزة والضفة. ففي غزة استمرت عملية الإبادة التي تقوم بها قوات الاحتلال، وكما أن أخبارها لم تصل إلى المتحدثة باسم البيت الأبيض، فأنها لم تصل إلى أحد أيضاً، بما في ذلك الأمانة العامة لجامعة الدول العربية، التي اشتقنا إلى بيانات الاستنكار التي كانت تصدر عنها.
أما في الضفة، فاقتحام استمر أياما عدة لمدينة نابلس، وهي المدينة التي اختارتها حكومة سلام فياض ميدانا اختباريا لخطتها الأمنية، فتسلمت سلاح بعض المقاتلين، ونشرت فيها وحدات أمنية .. وقالت إن التجربة تلاقي نجاحا، ثم جاء الاجتياح الصهيوني للمدينة، وعمليات التقتيل والاعتقال فيها.
لماذا حدث هذا؟ للبحث عن الإجابة يتوجب النظر إلى تصريحات مسؤولين صهاينة قالوا إنهم سيطلبون من بوش ” ضمان حرية عمل الجيش الإسرائيلي في الضفة أثناء المفاوضات، وأن تكون الدولة الفلسطينية خالية من أي قوة تستهدف فرض النظام والقانون”.
هذه هي بداية الإجابة، فكما أراد فياض نابلس ميدانا لاختبار التجربة، يتابع جيش الاحتلال إكمال الأجزاء الأخرى من التجربة ذاتها، يقوم فياض بسحب السلاح ونشر وحدات من أمن السلطة، ويدخل الاحتلال إلى المدينة لقتل من لم يسلم سلاحه، أو لاعتقاله، دون أن تحرك أجهزة الأمن ساكنا، هذا بالضبط ما حدث في نابلس.
أما في رام الله فقامت أجهزة أمن السلطة بتنفيذ اعتقالات مسبقة، بالتزامن التام مع دخول الصهاينة إلى نابلس، وهو دخول للمناسبة لم يجد فياض للتعليق عليه أو انتقاده.
وهكذا يكون قد تم إعداد السيناريو الذي يصادق عليه بوش بـ”توافق” الأطراف، قتل في غزة و”تنظيف” في الضفة، والسلام يتقدم.. فبوش سيطلب إزالة المستوطنات العشوائية، وسيتفرغ بعد ذلك للمهمة الأساسية: تنبيه العرب للخطر الإيرني.