نظرية “روستو” في مراحل النمو الاقتصادي

تمهيد:

تعتبر نظرية الاقتصادي الأمريكي  “والت ويتمان روستو”، من بين أبرز نظريات النمو الاقتصادي، التي ظهرت بعد الحرب العالمية الثانية. حيث كان العالم الذي دمر نفسه بنفسه، يبحث من جديد عن سبل لبناء ما تهدم، ووفق رؤى مختلفة، ربما أراد بعض المنظرين من خلالها منع “الضواري الكبرى” من التقاتل مرة أخرى. بيد أنه من الصعب، الابتعاد عن الظروف التي أنتج فيها “روستو” نظريته المتضمنة في كتاب ” مراحل النمو الاقتصادي”. فمن المتصور أن النظرية أطلقت في بيئة “الحرب الباردة” وأرادت على نحو ما، الرد على “النظرية الشيوعية” حول تطور المجتمعات، وعلاقات الإنتاج فيها.

فمن اللافت للانتباه أن تقسيم “روستو” مراحل النمو إلى خمس بحسب تطور المجتمعات، يذكر فوراً بالمراحل الخمس التي وضعها المفكر الماركسي السوفياتي “ل. سيغال” في كتابه الشهير الذي حمل عنوان “مبادئ الاقتصاد السياسي”. حيث قسم “سيغال” مراحل تطور المجتمعات إلى ” الشيوعية البدائية، الرق، الإقطاعية، الرأسمالية، الاشتراكية”(1). بينما اعتمد “روستو” مصفوفة أخرى، تلاحظ من خلالها النية في المساجلة الإيديولوجية مع الخصم. وإن كانت نظرية “روستو” شأنها شأن كل نظرية، تحتمل النقد، وتحتاج إلى اختبارات عميقة في الواقع، فسوف يلاحظ دوماً أن جانباً كبيراً من الانتقادات الموجهة إليها، قد بني على كون النظرية، سجالاً مع رؤية اقتصادية مختلفة، وفي ظروف احتدام قاسية. كما بني على “تعميميتها”، وارتباطها بنسق تفكير “المركزية الغربية”، وهي تتحدث عن تنمية “العالم الثالث”.

أولاً: مراحل النمو عند روستو:

يحدد “روستو” المراحل الخمس لتطور المجتمعات وفق مراحل النمو الاقتصادي على النحو الآتي:

  1. المجتمع التقليدي: ويدخل تحت هذا التعريف كل العالم السابق لعصر “نيوتن” ابتداء بالمجتمعات البدائية وحتى بعض المجتمعات الحالية في الأزمنة الحديثة. وهو عالم يتميز بأنه لا يمتلك الإمكانيات الهائلة التي يوفرها العلم والتكنولوجيا، أو لا يحسن استعمالها بشكل منهجي منظم في سبيل الإنتاج.
  2. توفر شروط مرحلة الانطلاق: حيث يطرح الانتقال من المجتمع التقليدي إلى مرحلة الانطلاق مشكلات معقدة، ويتطلب توافر شروط معينة. فمن وجهة نظر اقتصادية خالصة يجب أن يؤدي معدل الاستثمار إلى زيادة في الإنتاج يفوق بوضوح عدد السكان. إلا أن هذا لا يكفي، إذ ينبغي تأسيس بنية تحتية اقتصادية، وهذا لا يتم إلا من خلال سلطة سياسية راغبة في ذلك. فالتغييرات الاجتماعية والنفسية التي تسمح بالخروج من مرحلة المجتمع التقليدي، تحدث (كما يقول “روستو”) ” تحت تأثير مد قومي واضح، والأمثلة على ذلك واضحة: الميجي في اليابان، واليونكرز في ألمانيا”.
  3. مرحلة الانطلاق: لا يمكن فصلها عما أسماه صاحب النظرية “روح المبادرة” لدى مجموعة من الناس، يكونون قادرين على توجيه القسم الأعظم من المداخيل، نحو قطاعات إنتاجية قابلة للنمو السريع. (الصناعة القطنية في بريطانيا، صناعة الخشب في السويد، السلاح في روسيا واليابان والمانيا..)
  4. مرحلة الاتجاه نحو النضج: يعتبر “روستو” أنه لا بد من مرور ثلاثة أجيال تكون قد عاشت في جو النمو لبلوغ هذه المرحلة التي يزداد فيها الاقتصاد تعقيداً، وتزداد الصادرات، وتقل الواردات، ويتم فيها الاستفادة القصوى من التكنولوجيا. وقد بلغت بريطانيا هذه المرحلة عام 1840، والولايات المتحدة عام 1900، وألمانيا وفرنسا عام 1910، واليابان عام 1940، وروسيا وكندا عام 1950. (2) وقد حدد روستو أهم التغيرات التي تأخذ مكانها في هذه المرحلة فيما يلي:

– التحول السكاني من الريف إلى الحضر، وتحول الريف ذاته إلى شكل أكثر حضارة.

– ارتفاع نسبة الفنيين والعمال ذوي المهارات المرتفعة.

– انتقال القيادة من أيدي أصحاب المشروعات والرأسماليين إلى فئة المدربين التنفيذيين.

– النظر إلى الدولة في ظل سيادة درجة من الرفاهية المادية، وكذا الفردية على أنها المسؤولة عن تحقيق قدر متزايد من التأمين الاجتماعي والاقتصادي للمواطنين.(3)

  1. مرحلة الاستهلاك الجماهيري الواسع: وفيها تسعى الدولة المعنية نحو العظمة والقوة وتوفير الحد الأقصى للأمن والأمان للجميع، ورفع القدرة الشرائية للسكان، وتتوافر في هذه المرحلة السلع الاستهلاكية، وتكون مع قطاع الخدمات، القطاعات الرئيسية في الإنتاج. (4)

النظرية في التطبيق:

بغية الوصول إلى معالجة مدى إمكان الاستفادة من تطبيقات هذه “نظرية روستو” على دولنا التي تحسب من ضمن ما يعرف بـ “الدول النامية” يتوجب سوق ملاحظتين هامتين:

الأولى: إدراك السياق الذي جاءت فيه النظرية، وهو حسب ما جرت الإشارة في التمهيد، يتعلق بعاملين هامين، وهما، الأول: محاولة ضمان مستويات من النمو، تمنع تجدد الحرب، حيث يخلص “روستو” إلى أن ” الصراعات الكبرى في القرن العشرين تكمن في عدم التكافؤ في النمو بين الدول. ولا بد لتفادي نشوب صراعات جديدة، من تأمين الشروط الأولية للانطلاق الاقتصادي في بلدان العالم الثالث” (5). والثاني: الرد على النظرية الماركسية حول نمو وتطور المجتمعات في ظروف الحرب الباردة.

صحيح أن “روستو” يتحدث عن ” تأمين الشروط الأولية للنمو في العالم الثالث”، ولكن المعلوم أن الصراعات الجاري الحديث عنها هي صراعات ناجمة عن اشتباك “الدول الضارية” (لرأسماليات الكبرى) في تقاسم النفوذ وحيازة ثروات أكبر. وعلى نحو ما فإن الإشارات كثيرة إلى أن انفجار الحرب العالمية الثانية، على صلة بـ “الكساد الكبير” من ناحية، وبـ “رغبة ألمانيا النازية” في الثأر من نتائج الحرب العالمية الأولى من ناحية ثانية. أي أن لا صلة لتعثر نمو العالم الثالث، وهو الخاضع بمجمله في ذلك الحين لسيطرة ونفوذ الدول الكبرى باندلاع الصراعات، ما خلا الصراع على كيفية نهب ثرواته بين القوى الرأسمالية النافذة. وعليه فإن “عقل المركزية الغربية” بقي مهيمناً في أطروحات “روستو”. وهو أراد ” اعتبار النموذج الغربي هو الواجب الاتباع، وأنه يمكن اللحاق به” بحسب د جلال أمين.(6). وقد بدا مقلقاً، بالنسبة للرأسمالية الغربية، توجه عدد ليس بالقليل، من الدول الخارجة حديثاً من تحت السيطرة الاستعمارية المباشرة، إلى تبني نماذج من “التوجهات الاشتراكية” في سياسات التنمية (الصين، أندونيسيا، مصر، الجزائر..) ومن هنا جاء الرد الذي وضعه “روستو” على النموذج الماركسي الذي طرحه “سيغال”.

الثانية: وهي وثيقة الصلة بالملاحظة الأولى وتتعلق بالنظرة التعميمية إلى العالم الثالث، حيث “يفترض روستو أن كل هذه البلدان تتعرض لنفس المشاكل، وتعاني من نفس المعوقات وتتطور تقريباً بنفس الشكل في عمليتها التنموية، فروستو صور لنا مراحل النمو الخمس على شكل محطة قطار، عن طريقها، وبالضرورة يجب أن تمر كل الدول السائرة في طريق النمو، علاوة على ذلك فقد أغفل روستو ظرفاً هاماً من الظروف المهيئة للانطلاق في الرأسمالية الغربية، وهو الاستعمار ونهب الثروات، اللذين حققت عن طريقهما مراحل ازدهارها وتقدمها” (7).

ثانياً: المشكلات والمعوقات والتحديات أمام التنمية في فلسطين:

تتشارك فلسطين مع كثير من “الدول النامية” في المشكلات والمعيقات والتحديات التي تواجه عملية التنمية في تلك الدول. من قبيل زيادة عدد السكان، وانعدام الموارد الطبيعة أو ندرتها، وعدم وجود بيئة جاذبة للاستثمارات، وغياب التخطيط المبتكر، والتبعية، وارتفاع المديونية، والضعف التقني، وقلة الإنتاج، وضعف الاهتمام بالكادر البشري، والفساد. غير أن فلسطين تظل حالة خاصة، إذ هي البلد الأخير في العالم، الذي ما زال تحت الاحتلال، بل ويواجه نمطاً استعمارياً يكاد يبدو فريداً في اعتماده على الإجلاء والطرد والإحلال.  وقد طور هذا الاحتلال، بعد توقيع الاتفاقات السياسية مع الفلسطينيين، نسقاً من تأبيد تبعية الاقتصاد الفلسطيني، لاقتصاد دولة الاحتلال الصهيوني. وهكذا تكرس أكثر فأكثر نموذج الحالة الفلسطينية الخاصة.

مع ذلك، سوف نعثر على وجهتي نظر، أولاهما: تنسب إعاقة التنمية بالكامل، إلى الاحتلال الصهيوني، سواء عبر إجراءات الحصار الكامل والتعديات، والتحكم الكامل بحركة الفلسطينيين، وتقييدهم بـ “اتفاق باريس الاقتصادي” الموازي لاتفاق أوسلو. وتنتهي هذه الوجهة إلى خلاصة تقول: “إن التنمية والاحتلال لا يمكن أن يلتقيا”. أما الثانية: فهي لا تهمل الدور الأساسي للاحتلال، ولكنها تلحظ العوامل الخاصة بالفلسطينيين أنفسهم، حتى كان هناك من يتحدث، عن إمكان “التنمية تحت الاحتلال”.

تبدو الوجهة الأولى متسمة بالوضوح القاطع. وعليه سوف نتوقف مع الوجهة الأخرى، والتي تنطوي على كم لا بأس به من التفاصيل المتعلقة بالدور الفلسطيني. يحدد الباحث ” عماد سعيد لبد” (8) جملة العوامل الآتية بوصفها تمثل المعوقات الخاصة  والمعوقات العامة، ومشاكل التنمية في فلسطين:

المعوقات الخاصة:

  1. حداثة نشوء السلطة الفلسطينية وتسلمها زمام الأمور في الكثير من المجالات دون تجربة سابقة أو استعداد كاف.
  2. التداخل بين صلاحيات السلطة الوطنية الفلسطينية في المناطق (ب،ج)(9) وما يفرزه ذلك من أولويات مختلفة ومتعارضة.
  3. مراوحة نظام الجكم الفلسطيني القائم بين غياب عمل المؤسسات والسعي لإقامة قواعد عمل سليمة لها ترتكز على الأسس الموضوعية في العمل التنموي، فعدم الفصل بين السلطات الثلاث عملياً حتى الآن، وهيمنة السلطة التنفيذية على زمام الأمور أدى إلى غياب وصف وظيفي واضح للمؤسسات الفلسطينية الرسمية، وكذلك عدم وجود من يقوم بمساءلتها، وبالتالي صعوبة إحداث التنمية الشاملة والناجحة.

المعوقات العامة:

  1. معوقات التنمية الناتجة عن التشوهات التي أحدثها الاحتلال الإسرائيلي، مثل الاستيلاء على ما يزيد عن نصف مساحة الأراضي، وربط العمالة الفلسطينية بالاقتصاد الإسرائيلي.
  2. المعوقات والمحددات الناتجة عن الظروف الطبيعية، مثل انعدام الموارد الطبيعية، وعدم وجود ربط جغرافي ما بين الضفة الغربية وقطاع غزة.
  3. المعوقات والمحددات التي تعيق تطور عملية التنمية، ولا يمكن إزالتها قبل بداية العملية التنموية، وإنما تتلاشى وتزول تدريجياً مع المضي في عملية التنمية، مثل انخفاض متوسط الدخل الفردي وسوء التغذية والبطالة المقنعة وغيرها.
  4. معوقات ديمغرافية تتلخص في زيادة عدد السكان والتوزيع غير الملائم بين الريف والمدينة، حيث يسكن حوالي ثلث السكان الريف الفلسطيني، والذي يعتبر أشد المناطق فقراً في فلسطين.
  5. المشاكل الناتجة عن تنفيذ عملية التنمية، وبغض النظر عن الإستراتيجية المتبعة، فلا بد من التكيف الاجتماعي والتربوي والثقافي التي تتطلب انماطاً جديدة من الحياة.
  6. المشاكل الناتجة عن منافسة الاقتصاديات المجاورة، فالعملية التنموية في الاقتصاد الفلسطيني تتأثر مباشرة من طبيعة العلاقات التي تربط الاقتصاد الفللسطيني بالاقتصاديات المجاورة، وذلك لحاجة العملية التنموية في فلسطين لهذه الاقتصاديات عبر الحصول على المستلزمات الضرورية من المدخلات بالإضافة إلى تسويق الفائض الإنتاجي فيها.

جرى اعتبار الاحتلال في التعيين أعلاه بوصفه عاملاً من بين العوامل العامة المساهمة في إعاقة التنمية الفلسطينية. وعليه يمكن الافتراض بأن الشعار الذي طرحته السلطة الفلسطينية، والذي يقول بـ ” التنمية في ظل الاحتلال”، إنما انبنى على مثل تلك المحددات التي وضعها الأستاذ “لبد” وغيره من الباحثين، وعلى محاولة تخطي معوقات الاحتلال، غير أن النتائج لم تكن بحجم التوقعات.

في تحقيق أجرته الصحافية الفلسطينية ” آية السيد أحمد”(10) ونشر على الموقع الإلكتروني لـ ” جامعة القدس المفتوحة” تحدث عدد من الخبراء الاقتصاديين الفلسطينيين، والذين بدوا مجمعين على النقاط الآتية:

  1. صعوبة تحقيق التنمية الاقتصادية في فلسطين في ظل الاحتلال.
  2. هذا الوضع لا يلغي وجود واجب وطني وسياسي، ومتطلبات اقتصادية يجب العمل عليها لإيجاد اقتصاد فلسطيني قادر.
  3. التركيز على المشاريع الاقتصادية المتوسطة والصغيرة لإحداث التنمية، لأن التجربة تؤكد قيام الاحتلال باستهداف المشاريع الكبرى عادة.
  4. لم تقم السلطة بتقديم التسهيلات والدعم للمشاريع الصغيرة والمتوسطة، وبدلاً من ذلك دعمت المشاريع الكبيرة، رغم أن المشاريع الصغيرة والمتوسطة تشكل 98 في المائة من المؤسسات الاقتصادية الفلسطينية.

يمكن الاطمئنان إلى اعتبار هذه النقاط بمثابة خلاصة لتوصيف المعوقات والمشكلات والتحديات التي تواجه التنمية الاقتصادية في فلسطين، فهناك دور الاحتلال في المقام الأول، تليه مشكلات أفاض في تعيينها الأستاذ “لبد”، ثم غياب التخطيط الدقيق الذي يمكن من تخطي دور الاحتلال نسبياً عبر دعم المشروعات الصغيرة والمتوسطة.

ثالثاً: الميزات والمقومات الاقتصادية في فلسطين:

تمتعت فلسطين قبل النكبة عام 1948، بمعدلات جيدة من النمو الاقتصادي، حتى أنها تمايزت عن محيطها العربي على هذا الصعيد، وذلك بسبب عدد من العوامل، من بينها:

  1. خصوبة أراضيها والنشاط الزراعي المتميز.
  2. نشاط موانئها، وخاصة ميناء حيفا الذي حوى مصباً نفطياً أيضاً.
  3. وجود عدد من الصناعات التحويلية.
  4. وجود مقاصد متميزة للسياحة الدينية (القدس، الناصرة، بيت لحم).
  5. تحول فلسطين إلى قاعدة ضخمة للجيش البريطاني خلال الحرب العالمية الثانية، ما نشط كثيراً من القطاعات الاقتصادية التي كرست لخدمة حشد الجيش الضخم.

أدت النكبة إلى سيطرة الصهاينة على غالبية الأرض الفلسطينية (78 في المائة)، وإلى تقسيم فلسطين إلى ثلاثة أجزاء منفصلة. جزء قامت عليه دولة الاحتلال الصهيوني. وجزء جرى إلحاقه بالأردن (الضفة الغربية) وجزء صار تحت الحكم المصري (قطاع غزة)، كما جرى اقتلاع نحو مليون فلسطيني من ديارهم حيث توزعوا على مخيمات داخل فلسطين وخارجها. واستمر الوضع على هذا النحو حتى العام 1967 عندما استكمل الصهاينة احتلال فلسطين كلها، وجرى اقتلاع أعداد أخرى من الفلسطينيين.

عام 1993 جرى توقيع “اتفاق أوسلو” بين منظمة التحرير الفلسطينية، وبين دولة الاحتلال الصهيوني. وفي العام التالي قامت “السلطة الفلسطينية” مع سيطرة جزئية على مناطق في الضفة الغربية وقطاع غزة. وفي حين انسحب الاحتلال من قطاع غزة، (2005) وحاصره بالكامل، وشن حروباً تدميرية متتالية عليه (2008،2009،2012،2014)، فقد قلص سيطرة “السلطة الفلسطينية” على نحو متواصل في الضفة الغربية اعتباراً من عام 2002. وقطع أوصال المنطقة التي لا تتجاوز مساحتها أكثر من خمسة آلاف كيلومتراً مربعاً بنحو خمسمائة حاجز عسكري.

الحديث عن المقومات والميزات الاقتصادية في فلسطين، يجب أن يتم من الناحيتين النظرية والعملية ضمن مستويين، فهناك “فلسطين التاريخية” وهنا يمكن الحديث عن بلد بمقومات اقتصادية مميزة: الأراضي الزراعية، الموانئ التجارية، الكوادر البشرية الكفوءة، المعالم الهامة للسياحة الدينية، والخدمات المرتبطة بها. ويضاف إلى ذلك حقول الغاز المكتشفة على الساحل الفلسطيني.

وعند الحديث عن “فلسطين الباقية” نجد أن “دولة فلسطين” تقوم على جزئين منفصلين من الأرض (الضفة الغربية) و(قطاع غزة) يخضعان للحصار والتطويق، ولسياسات احتلالية تعيق عملية النمو الحقيقية على ما بقي من أرض فلسطين، ولمن بقي عليها.

قبل توقيع “اتفاق أوسلو”، لاقت خطط تنموية كان عنوانها “التنمية من أجل الصمود” نجاحات ارتكزت إلى المستوى التعليمي المرتفع عند الفلسطينيين، وكفاءة الموارد البشرية عموما، فضلاً عن استثمار المساحات الزراعية الباقية، وبعض الصناعات التحويلية الخفيفة. مع السماح النسبي لتصدير منتجات الضفة الغربية وقطاع غزة.

بعد توقيع اتفاق أوسلو، راج حديث كثير عن نموذج “سنغافورة” أو دول النمور الآسيوية عموماً. ارتكز هذا الحديث إلى ما اعتبر سمات متشابهة بين فلسطين وبين تلك الدول، وأهمها ” محدودية المساحة، وصغر الحجم، والاقتصاد الناشىء وانعدام الثروات الطبيعية، والموارد الخام” (11). وقد جرى عملياً وضع خطط اقتصادية للتنمية تلحظ التجارب المشار إليها، ولكن التمويل لم يأت، وتسارعت التطورات السياسية، والتي أبرزت صعوبات التخطيط في ظل الاحتلال.

مع كل ذلك، ما زالت “فلسطين الباقية” تملك مقومات للنهوض والبناء، وسلوك طريق التنمية، إذا جرت الاستفادة الكفوءة من المقدرات المتوفرة، جغرافياً وبشرياً، وتوظيف رؤوس الأموال الفلسطينية و”المنح الدولية”، في الاتجاه الصحيح. على أن كل هذا سوف يبقى نهوضاً نسبياً، حتى التخلص من الاحتلال. ففي جردة سريعة للميزات الموجودة في فلسطين حالياً، سوف يمكن الملاحظة ببساطة، أن غالبيتها تصطدم بما يضعه الاحتلال في طريقها من معيقات، وحتى إحباط، ومن ذلك:

  1. الميناء البحري في غزة: وهو المنفذ البحري الوحيد، بعد احتلال الكيان الصهيوني لمجمل الساحل الفلسطيني، ويمنع الاحتلال إقامة الميناء لأسباب أمنية.
  2. إعاقة الصيد البحري في غزة للأسباب نفسها.
  3. تدمير المطار في رفح/ غزة ومنع إعادة بنائه.
  4. إغلاق المعابر بين الضفة وغزة.
  5. إغلاق معبر رفح.
  6. تعويق تصدير المنتجات الزراعية من غزة والضفة.\
  7. تعويق الصادرات الصناعية من الضفة.
  8. التحكم بالدخول إلى القدس، ما يؤدي إلى تقويض اقتصاد المدينة، وضرب السياحة الدينية.
  9. تدمير أجزاء كبيرة من قطاع غزة.
  10. بناء الجدار الفاصل في الضفة، ووضع أعداد هائلة من الحواجز بين مدنها وقراها.
  11. منع الاستثمارات الفلسطينية في البحر الميت.
  12. حرمان الفلسطينيين من استثمار حقول الغاز الطبيعي قبالة غزة.
  13. حرق واقتلاع أشجار الزيتون، والتحكم بصادرات زيت الزيتون
  14. استخدام عوائد الضرائب في إجراءات عقابية للفلسطينيين.
  15. اعتقال الآلاف من الشباب في السجون..وغير ذلك.

لقد بذل الفلسطينيون على مدى عقود جهودا كبيرة في “التنمية السياسية” من أجل حماية وجودهم وصيانة هويتهم الوطنية. ويحتاجون جهوداً لا تقل عن تلك من أجل النجاح في التنمية الاقتصادية، والتي يراها كثيرون ممكنة، حين تنطلق ” من ضرورات الواقع الجغرافي الديمغرافي والاقتصادي والثقافي للمجتمع، ومن ثم اعتماد إستراتيجية تنموية ترتكز على مبادىء الاقتصاد الحر، والتصنيع التكنولوجي، وتعظيم مستويات الإنتاج تركيزاً على الصناعات الصغيرة والمتوسطة، وبالطبع (فإن) هذا يحتاج إلى العديد من القرارات والإجراءات الحيوية، والتي يمكن ذكر أهمها وهي:

– الانطلاق من بنية مؤسساتية للتنمية، سواء على المستوى العام أو الخاص.

– الحرص على التوازن بين القطاعات الاقتصادية، وداخل كل قطاع على حدة.

– اعتماد إستراتيجية التصنيع للتصدير بدل إستراتيجية الإحلال محل الواردات.

– إصلاح السياسات المالية والنقدية وملاءمتها لإستراتيجية التنمية والتصنيع للتصدير.

– المرونة العالية في التفاعل والاستجابة للمتغيرات الدولية والإقليمية.” (12)

 

رابعاً: موقع فلسطين التنموي بالقياس إلى نظرية روستو:

لابد من الإشارة بداية إلى أن “التقسيم الصارم” الذي يعرضه “روستو” لا ينبطق على الواقع تماماً، ولو أخذنا نماذج من دول “العالم الثالث” فسوف يكون واضحاً حجم التداخل بين المراحل التي تطرحها النظرية. ومن ذلك أن دولاً توفر بفضل عائدات الموارد الطبيعية (النفط والغاز أساساً) مستوى من الرفاه الاستهلاكي يشبه ما يكون عليه الوضع في المرحلة الخامسة من مراحل النمو عند “روستو”، بيد أن تطبيق معايير التنمية الحقيقية، بمعنى امتلاك وسائل إنتاج متطورة وعمليات تصنيع الخ، سوف يضع هذه الدول ما بين المرحلتين الثانية والثالثة..وهكذا. في المقابل فإن دولاً تنتمي في التصنيف الاقتصادي إلى العالم الثالث، قد حققت معايير تنمية مرتفعة على صعد متعددة، ولكنها لم تبلغ مرحلة الرفاه الاستهلاكي الواسع، كما هو الحال في بعض ” دول النمور الآسيوية” والهند وسواها.

من الناحية النظرية يمكن وضع بلدي “فلسطين”، وفق تقسيمات “روستو” ما بين المرحلتين الثانية، (والتي تتطلب توفير الشروط لمرحلة الانطلاق من حيث زيادة معدل الاستثمار المؤدي إلى زيادة في الإنتاج يفوق بوضوح عدد السكان. والذي يتطلب بدوره تأسيس بنية تحتية اقتصادية، وهو ما لا يتم إلا من خلال سلطة سياسية راغبة في ذلك) والثالثة، وهي مرحلة الانطلاق (والتي تتطلب وجود “روح المبادرة” لدى مجموعة من الناس، يكونون قادرين على توجيه القسم الأعظم من المداخيل، نحو قطاعات إنتاجية قابلة للنمو السريع). ومن السهل ملاحظة أن بعض التوصيفات والحلول المقترحة التي عرضنا لبعض منها، تلحظ مسائل تتصل بتوجيه الجهود نحو تنمية قطاعات محددة، ووضع القوانين المناسبة للنجاح.

أما من الناحية العملية، فمن الممكن الاستنتاج بأن التخلص من الاحتلال هو الذي يضع البلد على طريق التنمية الصحيحة، والمتحررة من معوقات كثيرة، لا يد للفلسطينيين إجمالاً فيها.

نافذ أبو حسنة

الهوامش:

 

  • سيغال، ل، نظرات علمية في الاقتصاد السياسي، دار بغداد للطباعة والنشر والترجمة، مطبعة الرابطة- بغداد، (بغداد) الطبعة الأولى 1958، ص: 9.
  • الكيالي، دعبد الوهاب، المؤلف الرئيسي_ رئيس التحرير، موسوعة السياسة، المؤسسة العربية للدراسات والنشر(بيروت)  الجزء الأول، الطبعة الرابعة ،1969، ص: 240.
  • خشيب، جلال، النمو الاقتصادي مفاهيم ونظريات، شبكة الألوكة الإلكترونية، نقلاً عن : بخاري، عبلة عبد الحميد، التنمية والتخطيط الاقتصادي: نظريت النمو والتنمية الاقتصادية، الجزء الثالث، (د.ن)، (د.ت) ص: 40.
  • الكيالي، د عبد الوهاب، مرجع سابق ص: 241.
  • المصدر نفسه، ص: 241.
  • فاروق، رندة، ” نظريات التنمية بين روستو ونقد جلال أمين”، صحيفة “الأيام” (المنامة- البحرين) العدد 9268، تاريخ 14/9/2014 .
  • خشيب، جلال، المرجع السابق. نقلاً عن: دبلة، عبد العالي، الدولة رؤية سوسيولوجية، دار الفجرللنشر والتوزيع، ط 1، 2004.
  • لبد، عماد سعيد، التنمية الاقتصادية في فلسطين، مركز المعلومات الوطني الفلسطيني (وفا). الموقع الإلتروني للمركز.
  • وفق اتفاق أوسلو جرى تقسيم المناطق الفلسطينية إلى أ،ب،ج، حيث اعتبرت المنطقة أ تحت السيطرة السياسية والأمنية للسلطة الفلسطينية، في حين بقيت منطقتا ب و ج، تحت السيطرة الأمنية للاحتلال.
  • السيد أحمد، آية، هل يمكن تحقيق التنمية الاقتصادية في ظل الاحتلال؟ جامعة القدس المفتوحة. الموقع الإلكتروني للجامعة.
  • لبد، عماد سعيد، المرجع السابق.
  • المصدر نفسه.

 

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *