مفكرون وخبراء اسرائيليون: لقد وقعنا في هزيمة تاريخية

يميل عدد من متابعي الشان الإسرائيلي، ومعهم سياسون ومثقفون، إلى اعتبار التعليقات الاسرائيلية المؤشرة إلى الفشل الذريع الذي مني به الجيش الاسرائيلي في لبنان، والتي ملأت وما تزال، الصحف العبرية ، نوعاً من التعبير تحت وطأة الصدفة. لاسيما وأن هذه التعلقيات تصدر عن أولئك الذين صاغوا أوعاشوا في ظل شعار الجيش الذي لا يقهر، ويلاحظ متابعون أن مقالات على غرار ما كتبه “رؤوفين بدهتور” في هآرتس (16/8/2006) بعنوان:” الضربة القاضية التي تلقيناها” لا تعكس واقع الحال. بل قد تكون حاصل لحظة إحساس بالذهول والمفاجأة معا.

يوجد على الدوام من لا يريدون التصديق بأن ثمة إمكانية لإلحاق الهزيمة بإسرائيل. ومثل هؤلاء آثروا توصيف الاندحار الصهيوني عن جنوب لبنان عام 2000، بأنه ناجم عن “صفقة” بدل الاعتراف بحقيقة أن المحتلين فروا تحت تأثير ضربات المقاومة. وكل هذا ليس بالجديد. فهناك من يرى إلى اسرائيل قوة لا تقهر، ولا سبيل إلى هزيمتها، وبنيّ على ذلك توسل “حلول” لا تأتي حتى مع درجات إذلال عالية. وهناك من يظل يتحدث عن هشاشة إسرائيل منبئاً بانهيارها القريب من دون أن يرفق ذلك العمل أو السعي لتوفير الأسباب للتحقيق لمثل هذا الانهيار.

الواقع ليس هذا ولا ذاك. نحن بإزاء كيان قوي وعدواني، يملك جيشاً، وسلاحاً، وتكنولوجيا، وانحيازاً دولياً فاقعاً، واقتصاداً مسنوداً بالتعيش والاحتكارات معاً. لكن هزيمته ليست مستحيلة والشواهد على ذلك قائمة، ولعل القناعة بانعدام هذه الاستحالة، هي التي فجرت هذا الكم من التعليقات العبرية، وأثارت تساؤلات ومخاوف لدى أوساط متعددة في الكيان الصهيوني وخارجه.

لقد بنت إسرائيل لنفسها صورة الدولة القادرة حيث لا يجرؤ أحد على المس بها. وهو ما يعطيها “حقاً” في الاحتلال والهيمنة. ونفذت تلك الصورة من مصادر متعددة ومختلفة في طليعتها: الاستحواذ بالرعاية الأمريكية خاصة والغربية عامة، على صفة “دولة فوق القانون”، وتعميم ثقافة الضعف العربي وغياب إرادة التحدي، وكذلك الوحشية التي اتسمت بها آلة الحرب الاسرائيلية.

لقد اتسع بناء هذه الصورة” بعد هزيمة حزيران عام 1967. ورغم أن كثيراً من الوقائع قدّمت إسهامات حقيقية لتبديدها، فإن ما هو غير مفهوم: التمترس عند لحظة الهزيمة واعتبارها النقطة الحاسمة في مجرى الصراع العربي _ الاسرائيلي.

ليس لأحد أن يخفف من جسامة الحدث الحزيراني، لكن الشئ غير الجائز هو عدم رؤية ما بعده، بدءاً من حرب الاستنزاف على الجبهة المصرية، وصولاً إلى حرب تموز 2006.

بالعودة الى مقالة “بدهتور” (ومثلها عشرات المقالات) يقول المعلق الاسرائيلي البارز:” نحن لسنا أمام فشل عسكري فقط، وإنما أمام فشل استراتيجي(…) ومثلما أفضت حرب الأيام الستة إلى تغير استراتيجي في الشرق الأوسط وتكريس مكانة إسرائيل كدولة إقليمية عظمى. قد تؤدي حرب لبنان الثانية إلى عملية معاكسة، ففشل الجيش الإسرائيلي في القتال يقضم ثروتنا الأهم بالنسبة للأمن القومي، صورة الدولة القوية الجبارة التي تمتلك جيشاً قوياً ومتطوراً، وقادراً على ضرب أعدائنا وتوجيه ضربات ساحقة لهم (…) كما اتضح بسرعة أنها كانت حرباً على الوعي والردع وقد فشلنا في الحالتين”.

يبدو من المهم الآن، إدراك حجم التغيير الذي حدث، وتغيير “الوعي” الذي جرى تكريسه في أذهان كثيرين منذ حرب حزيران، وما جرى بعد ذلك من خلال استنزاف الوقائع والأحداث التي وجهت ضربات قوية لهذا الوعي. ففي حرب تشرين / اوكتوبر 1973، بادر العرب وانتصروا، وبدأ مذاك تهشيم صورة الجيش الذي لا يقهر، لكن الانتصار ما فتئ أن استهلك بعد وقت قصير، وذلك بإفقاده روحه عبر تعميم نهج التسوية.

وبتعبيرات”فان كارفيد” (مؤرخ عسكري اسرائيلي) غامرت” إسرائيل بالبقاء دون جيش في مواجهة الانتفاضة الفلسطينية الأولى”. ومعروف أن تفاعلات هذه المبادرة الشعبية الكبيرة قد طوّقت باستثمار سياسي بائس. وهكذا أسهم تعميم ثقافة الضعف، في المحافظة على “صورة” تبدت لا واقعيتها أكثر تدميراً، حتى وهي تعبر عن نفسها بأقصى مظاهر الوحشية أمام مجموعة مقاتلين فلسطينيين في مخيم جنين، تسلحوا بـ”الوعي” الذي كرسه انتصار المقاومة في لبنان عام2000.

يتحدث كثير من المعلقين الاسرائيليين عن الغرور”الذي حكم سلوك ضباط الجيش وقيادته، وأدى الى الهزيمة”. لكن ما يصمتون عنه، هو رغبة إسرائيلية أساسية باستعادة الوعي المفقود عن القوة التي لا تقهر وهو مالم توفره حرب الإبادة على الفلسطينيين العزل. وبدل أن ينجح ” الجيش المتطور” في ذلك، فقد جوبه بمقاومة صلبه هزمته، ومزقت بقايا الأسطورة في ميدان اختبار حقيقي لم يتعرض له منذ سنوات طويلة.

إنهم الآن يعترفون بخسارة الحرب على “الوعي والردع”. فهلا أحسنا هذه المرة إستراتيجة لتثمير انتصار فعلي، يفوق كل ما عداه، بعدم استهلاكه والتصرف بمقتضيات وعي انتصاري جديد؟!

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *