“عسل المرايا” لنافذ أبو حسنة: عندما يشاغب الواقع

علي العزير

صدرت عن “منشورات ضفاف” رواية “عسل المرايا” لنافذ أبو حسنة، من سماتها أنها رواية المدن بامتياز، وحكاية الحواضر العربية التي تضج بالكثير من التاريخ وتنوء بأعباء الكثير من الجغرافيا. هي رواية المرأة أيضاً، حيث تتماهى النساء في زمن الخيبة مع الأمكنة حتى تكاد واحدتهن تصير وطناً كامل المواصفات يستعاض بها عنه، ويكون الانتساب لها بديلاً من الانتماء اليه.

تضيق بنا المدينة، أو تتمنع علينا أحياناً، فنلوذ بامرأة لها نكهة الترحال العتيق، ولكلامها معارج التيه في دهاليز الروح؛ امرأة يصحو الوطن في اشراقة صبحها، ثم ينام كطفل في حنايا ابتسامتها، مستمتعاً بأقاصيصها المعجونة من طفولة وصواعق.
تتهاوى الحدود بين الأنثى والمدينة، في رواية “عسل المرايا”، فنحتار أيهما تحتضن الأخرى، وأيهما تشبه الثانية أكثر: بيروت أم سلام راضي؟ لكلتيهما بحر هائج، حاد المزاج، أما الشاطئ فمجرد استثناء أو استراحة بين دهشتين.
يخلط الكاتب عمداً بين المكان وكائنته الساحرة، فنراها تصوغه مرة وتعيد تشكيله مرة أخرى، ينبثق أحدهما من الآخر ذات انفجار فكرة، فيأتلق الحكي وتستكمل الرواية فصولها الممتعة.
يتشكل العمل الروائي من شخصيات قلقة، تعاقر الكثير من النزق وتستبد بها رغبة تائقة لاختراق المحاذير، فتتوزع في أنحاء الجغرافيا الشاسعة لكنها تتقاطع عند منعطف المزاج الذاهب تواً نحو انفجار ما، حيث يصعب التمييز بين العراقي ضرار سلمان والفلسطيني محمد الشبابي، ومثلهما عبد الرحمن، الشخصية المحورية التي تتميز عن سواها بثقل الأعباء الموكلة اليها. الجميع ينشد فرصة تبدو متعذرة لكسر الحلقة الرتيبة التي تطوّق أحلامه الساذجة، والجميع يبحث عما يصفه الراوي بـ”الحياة المستأنفة” التي تعني استعداداً انتحاري الطابع لمقايضة الذاكرة المتشظية ببقايا مستقبل يتوسل قدراً من الطمأنينة الساذجة.
ثمة تيمة مشتركة تجمع بين شخصيات الراوية هي الشعور الجامح بتهديد وجودي، معطوف على التباين في طرق المواجهة. هنا تظهر المرأة بوصفها ملاذاً، لكنها سرعان ما تبدي هشاشة غير متوقعة. تقول سلام راضي لعبد الرحمن، مشيرة الى خطأ ارتكبته يوم ارتبطت عاطفياً بضرار سلمان: “في بعض الحالات تستخدم المرأة رجلاً بدلاً من هذا”! ثم ترفع اصبعها…
يختار عبد الرحمن الاختباء خلف الأسماء المستعارة في كتاباته الصحافية، إذ يجد منعة في ذلك. ربما للأمر علاقة بكونه لاجئاً فلسطينياً، يفتقد مشروعية الانتماء، أو حق السعي اليه أيضاً. قريباً نكتشف أن معاناة اللجوء تتخطى فقدان المكان ولقمة العيش، حيث ثمة أبعاد غير منظورة له يدركها اللاجئ الحقيقي فقط. ففي لحظة متأخرة من عمره يدرك الصحافي ذو الأسماء المتعددة معنى أن يغادر مدينة، ثم يحنّ للعودة اليها، ذلك أنها المرة الأولى يكون له فيها من ينتظره.
سقطت بغداد ظهيرة يوم مغبر، وسقطت معها أحلام كثيرة. المدينة التي يرث ناسها كتب أسلافهم العتيقة، كانت تبيع الكتب فوق الأرصفة المهشمة، وكانت عشية الاحتلال أقرب إلى مومس تبيع نفسها، ومعها ملجأ العامرية الذي ظلت أرواح قاطنيه تضج طويلاً في أرجائه بعدما قصفته الطائرات المغيرة.
في مدن موازية تقع على خط الزلزال نفسه الذي ضرب بغداد، بيروت مثلاً، كانت تقام الحلقات في مقاهي الأرصفة، وكانت تضم نماذج بشرية متباينة أشد التباين، لكنها متكاملة ايضاً، حيث يجد أحد أفرادها نفسه في سياق التضاد الذي يمارسه حيال الآخرين. هنا عليك أن تتعامل مع ما يشكل نقيضاً لأحلامك وهواجسك ورغباتك الدفينة باعتباره أمراً واقعاً. الصحافيون الذين يربطون تحليلاتهم الاستراتيجية بمصالحهم المادية، معظمهم يكتب ويحكي كما لو أنه ينتقم من قرائه وسامعيه.
الجنرال أيضاً هناك، وهو مقاتل قديم أبدى الكثير من الصلابة في معارك غير متكافئة، لكنه انتهى إلى كرسي في مقهى، ولن يطول به الأمر قبل أن تجتذبه رعونة أنثوية تجسدها سلام راضي، ستعيد الرجل الفولاذي إلى مشاعر العشق البريء، وسترى في عينيه دمعة ملحة، وستسري في أنامله رعشة كان الظن أنه تحرر منها بينما كان يسعى لتحرير موائل طفولته الهاربة.
تسيطر على عبد الرحمن حالٌ من فقدان التواصل مع محيطه المادي والبشري. وحدها سلام راضي يمكنها أن تنقذه من غربته المقيمة. هي حبيبة سابقة لصديقه السابق، لكنها تتحول في زمن المفارقة إلى مشروع استنبات مستقبل في تربة قاحلة. ها هي لعبة الحياة المستأنفة تفرض نفسها مجدداً، حيث تتم مقايضة الماضي الذي حمل الكثير من الآمال الواثقة بآتٍ يحتاج إلى الكثير من السذاجة ليكتسب مشروعية الحلم به.
في الرواية اختصار مكثف للحوادث تقابله استفاضة في تحليل دلالاتها. قبلة الأنثى تستغرق جزءاً من الثانية، في حين التداعيات المتأتية منها يلزمها الكثير من الصفحات. تحتدم الحوادث في العالم بصورة تستعصي على التفسير حتى من جانب أولئك الذين يقدّمون أنفسهم بوصفهم كاشفي الحجب الاستراتيجية، ثم تحضر امرأة من زاوية قصية فتعيد ترتيب العالم، بل تتحول بديلاً منه.
تبدي “عسل المرايا” مرونة فائقة في السرد. ثمة تفاصيل شتى تجد مكانها في سياق النص المشغول بحرفية مثيرة للدهشة، حيث تتواقع الحوادث السياسية الجسام مع اللحظات العاطفية المشحونة، فلا تعود الرواية محتاجة إلى مقدمة وحبكة وحل سحري، لأن في وسع اليوميات أن تمتلك الإثارة التي تغني عن البنية التقليدية. هناك دائماً شيء من التواطؤ المضمر بين العمل الروائي المميز والتفاصيل المعيشة التي تنطوي على قدرة فائقة من الادهاش.

جريدة النهار 21/07/2015

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *