عباس ومحاصرة الحلم الفلسطيني

أثارت تصريحات رئيس السلطة الفلسطينية محمود عباس لقناة تلفزيونية «إسرائيلية» الكثير من ردود الفعل الغاضبة. التصريحات خطيرة جداً، وتستحق ما صدر من ردود فعل، بل وأكثر من ذلك بكثير. لكن الحقيقة أن لا شيء يمكن اعتباره مفاجئاً في هذه التصريحات، باستثناء وقاحتها، وشدة وضوحها، في التعبير عما يجول في خاطر الرجل وما يتبناه من مواقف ورؤى. التصريحات إذاً منسجمة تماماً مع سياق النص الذي يعتمده رئيس السلطة منذ وقت طويل. ولعل ما هو أسوأ من التصريحات نفسها، تلك التوضيحات التي تبارى الناطقون باسم السلطة لتقديمها، منكرين تارة أن يكون الرئيس قد تنازل عن حق العودة، ومدعين في أخرى أن القناة «الإسرائيلية» قامت بالاقتطاع والتزييف، وانتقاء مقاطع محددة، لإخراجها من السياق العام لكلام السيد عباس. الحقيقة مرة أخرى أن عباس كان «صادقاً» فيما قاله، أما المتحدثون باسمه فيكذبون.


عبّر السيد عباس عن «اقتناعه» بعدم التمسك بحق العودة. وقال إن من حقه رؤية صفد (سائحاً مثلاً) وليس من حقه العودة إليها أو الإقامة فيها. وأكد أنه ما دام حياً، ورئيساً فلن يسمح بانتفاضة فلسطينية ثالثة. على غرار انتفاضة الأقصى.
لم يقل رئيس السلطة مرة في حياته غير هذا الكلام. لم يؤمن بحق العودة يوماً، حتى وهو يساهم في تأسيس حركة فتح، ولا بكفاحها المسلح يوماً، وهو عضو لجنتها المركزية. ووقف ضد الانتفاضة الثانية، بحجة العسكرة والعنف، ثم عاد ليعتبر رشق الحجارة عملاً عنيفاً، ومقاومة الاحتلال «ألعاب صبية» والعمليات الاستشهادية «حقيرة» والصواريخ «نوعاً من العبث» وهكذا دواليك.

الأوهام وحصار الأحلام
يدافع عباس منذ وقت طويل عن خيار التسوية، وهو كتب في وقت مبكر من سبعينيات القرن الماضي عن تصورات لإنهاء الصراع سلمياً، وعبر «تطويق إسرائيل بالسلام، لتخليصها من وظيفتها العدوانية، ولوقف الدعم الغربي لها، بعد إنهاء تلك الوظيفة».
وفي ظروف الاهتراء والتكيف، أتيحت لعباس فرصة محاولة تحويل الأوهام إلى وقائع. فـ«ناضل» من أجل تكييف النص الرسمي الفلسطيني، مع ما يسكنه من أوهام، تتناقض حتى مع مقدمات كتابه «الصهيونية بداية ونهاية».
كي لا نطيل، وصل عباس عبر هذا المسار إلى أوسلو، والتي يفاخر حتى الآن بهندستها وبإنجازها. وفي أوسلو ليس هناك حق عودة للاجئين، ولا للنازحين حتى، أولئك الذين أخرجوا من الضفة وغزة عام 1967. وفي أوسلو ليس هناك مقاومة، بل تنسيق أمني. وفي أوسلو سلطة مهمتها تكييف الفلسطينيين مع وهم الدولة، ووهم الحل التاريخي وبقية أوهام الرجل الذي يريد محاصرة «إسرائيل» بالسلام، فأوقع شعباً ومنظمة وفصائل تحت الحصار. وها هو يصل إلى مرحلة «حصار الحلم»، بادعاء الاستسلام لمعطيات الواقع، وجلب «إسرائيل» إلى سلام سوف يحاصرها.
اتخذ رئيس السلطة والمنظمة وحركة فتح معاً، خطوات كثيرة في السياق الذي ظل وفياً له. ناصب الانتفاضة الثانية العداء. ورعى توقيع «وثيقة جنيف» التي كانت أول نص مكتوب يحمل توقيعاً فلسطينياً بالتنازل عن حق العودة. وخاض معركة تقليص صلاحيات الرئيس ياسر عرفات، والمتهم من الاحتلال والولايات المتحدة بدعم الانتفاضة، والإشراف على مجموعات مقاتلة من حركة فتح (كتائب شهداء الأقصى). وبعد انتخابه رئيساً في أعقاب اغتيال الرئيس عرفات، أظهر تقززه الدائم من كلمة مقاومة، ورفضه لأي حديث عن تجديد الانتفاضة، أو مقاومة الاحتلال. وأصر على رعاية التنسيق الأمني. في حين كان كل هدفه من لقاءات الفصائل الفلسطينية، الحصول على تعهدات بالهدنة مع الاحتلال، ولم يمانع في تضمين نصوص الاتفاقات الصادرة عن تلك الاجتماعات كلاماً عن الوحدة، وعن بناء أو إصلاح منظمة التحرير، إلى آخر العبارات الإنشائية المعتادة. أما الهدف الحقيقي، فالهدنة والحفاظ عليها.
لا يمكن لمسار من هذا النوع، أن ينتج نصوصاً بديلة لتلك التي باح بها السيد عباس للقناة التلفزيونية «الإسرائيلية». والمفاجأة هي في أن يصدر عن رئيس السلطة كلام آخر عن تحدي الاحتلال، أو التمسك بالحقوق الوطنية التاريخية للشعب الفلسطيني.

اللغة مبتعدة عن البداهة
في متابعة سيل المقالات التي كتبت ونشرت، بعد تصريحات محمود عباس، كان من الصعوبة بمكان أن تجد نصاً يتحدث عن معنى ظهور رئيس السلطة في حوار على تلفزيون الاحتلال. منتقداً أو متسائلاً. تأخذ بعض الوقت كي تتذكر أن كلاماً من هذا النوع يعود إلى زمن مضى. اليوم يجري انتقاد ما يقوله رئيس للسلطة في فلسطين، على شاشة العدو، وليس ظهوره على تلك الشاشة. وهذا بالذات ما قد يدفع المرء إلى تذكر البدهيات أيضاً.
اليوم سوف يبدو الفلسطيني المنسجم مع «المشروع الوطني الفلسطيني»، هو ذاك المسلم بما يقوله عباس عن أن «فلسطين هي الضفة والقطاع». أما الفلسطيني الذي يعتبر حيفا ويافا وصفد والناصرة وغيرها، مدناً فلسطينية والجليل معها مقصداً للعودة، فهو مغامر أو مجنون، لا يدرك طبيعة موازين القوى، وما زال يعيش في بداهات، تحولت عند «الواقعيين» إلى نظرية تحتاج إلى البرهان عليها. وهكذا أضحى توصيف فلسطين محل خلاف بين الفلسطينيين أنفسهم. وصار الكلام عن تحرير فلسطين البدهية في الوعي الفلسطيني، جنوناً مطلقاً. فهل هذا ما يدفع اليوم، قوى كانت إلى وقت قريب تقول بتحرير فلسطين كلها، إلى مغادرة «اللغة القديمة» والتحول نحو النص الواقعي؟
المفارقة أنه حين يجري الحديث عن مشروع وطني حدوده الضفة (يعتبرها نتنياهو مؤخراً، أرضاً متنازعاً عليها، وليست محتلة) والقطاع، لا يمكن الحديث في الوقت نفسه عن حق العودة. فوظيفة المشروع/ الدولة هي استيعاب الفلسطينيين كلهم، ومن يرد العودة إلى فلسطين، فليعد إلى تلك الدولة، مقلصة وفق رؤية نتنياهو الأخيرة.
أما الخطاب عن التمسك بحق العودة، في وقت يجري معه تحديد طموحات المشروع الوطني كله بدولة فلسطينية في الضفة والقطاع، فهو ينطوي على نوع من النفاق، والإصرار على التمسك بالإنشاء وليس بحق العودة.
لقد بدا عباس منسجماً مع نفسه تماماً. هو يتحدث من موقع اختاره لنفسه. وانتقاد هذا الاهتراء والعبث بحقوق أساسية، يتطلب رداً عملياً يتمثل في عودة فعلية إلى البدهيات. إلى فلسطين التي نعرفها جيداً. ما دون ذلك كيد سياسي. لأن ما وصل إليه رئيس السلطة، مر بالتنازل عن فلسطين التاريخية، وصوغ مشروع سياسي، سمي زوراً بالمشروع الوطني الفلسطيني، وهو يسقط ثلثي فلسطين من الحساب.

والبداهة هي المقاومة
كلام عباس المصحوب بالضرب بيده على مسند مقعده، إمعاناً في التأكيد أنه لن يسمح بانتفاضة ثالثة، لم يستوقف كثيرين ممن علقوا على حديث رئيس السلطة. لقد كانت تلك (الضرب على المسند) إشارة إلى أنه سوف يستخدم القوة في سبيل تنفيذ تعهده.
أجهزة أمن السلطة تنفذ منذ أيام حملة اعتقالات في الضفة، تطول كوادر من فصائل فلسطينية عديدة. وهذه إشارة عملية. وعملياً فإن التاريخ لم يشهد تهافتاً بهذا القدر، أي أن يقوم رئيس شعب تحت الاحتلال، بإعطاء هذا القدر من التطمين لعدوه، في حين ينتهك العدو الأرض والحقوق ويعتقل ويقتل، ويقتلع الأشجار ويغصب الماء، فضلاً عن تهويد المقدسات. ومرة أخرى بدا عباس هو عباس الذي يرفض ليس المقاومة بل مجرد الحديث عنها. وإعطاء التطمينات للعدو، هو جريمة بحد ذاتها، حتى لمن يريد التفاوض، ومن أصوله المعروفة توظيف كل أوراق القوة الموجودة بين يدي المفاوض، في معركته التفاوضية. أو التلويح باستخدامها كي يجبر العدو على إعادة حساباته. وهذا تلويح يرفضه رئيس السلطة، الذي يكاد يقول للصهاينة: افعلوا ما شئتم فلن نحرك ساكناً، ولن نسمح لأحد بأن يحرك ساكناً أيضاً. هذا أكثر من رسالة تطمين، هو تصريح لاستمرار القتل والغصب والانتهاك.
هنا لم نلحظ توقفاً مطلوباً عند هذه التصريحات التي لا تقل خطورة، عن التعهد بعدم العودة. فالمقاومة هي أيضاً حق للشعب الواقع تحت الاحتلال، والمقتلع من أرضه واغتصاب حقوقه. المقاومة حق كما هي واجب. وكلام عباس عن منع انتفاضة فلسطينية بالقوة، يستحق إدانة شديدة أيضاً. ولكنها ليست المطلوبة وحسب. بل تستحق أيضاً رداً عملياً. تستحق أن يقوم من يقول إنه متمسك بها بممارستها، وإلا بدا الأمر شبيهاً، بالتمسك بالعودة وبتحديد الهدف الوطني، بدولة في الضفة والقطاع. وهذه حال تستحق التوصيف ذاته.

نافذ أبو حسنة

01/12/2012

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *