خمسة وعشرون عاماً على أوسلو.. “تلك الأوهام التي عشناها”

نافذ أبو حسنة

جمعت “صدفة” بين عدد من “الكوادر” الفلسطينية متعددة الانتماءات الفصائلية. لم يكن لحدث كهذا أن يستحق الذكر، لولا أن اللقاء/ الصدفة صادف بدوره الذكرى الخامسة والعشرين لتوقيع اتفاق أوسلو. وأنه في مثل هذه اللقاءات، وبعيداً عن الصخب الذي يفرضه الوقوف أمام الميكروفونات أو أمام كاميرا تلفزيونية، تميل “الكوادر” الفلسطينية إلى التحدث همساً إلى حد ما، وبصدق إلى حد ما، خصوصاً إذا كانوا من يلتقون أصدقاء على نحو ما، رغم الخلافات الأيديولوجية، وتلك شبيهة المهزلة، التي تسمى بالخلافات الفصائلية.

بعد خمس وعشرين سنة، لم يعد أحد يستطيع، حتى لو أراد، الدفاع عن أوسلو. مضت تلك الأيام التي تحدث فيها البعض عن “إعطاء الاتفاق فرصة”. ولكن الحاضرين انزلقوا إلى حديث ذكريات، حمل بقصد أو دون قصد عنوان: “تلك الأوهام التي عشناها”. بدا العنوان لازمة تسبق كل كلام، تذرعاً، وتحسباً من أي سوء فهم، تبنى عليه افتراضات لا صلة لها بالحقائق.

في الحديث، استعادة لمشاعر تلك اللحظات التي ظهر فيها بث “تلفزيون فلسطين”، وهبوط طائرة في مطار رفح، وقد خط عليها بصورة عاجلة اسم “الفلسطينية”، وحملت الطائرة نفسها اسم القدس، وأثناء سيرها على المدرج، ظهر من قمرة القيادة علمان فلسطينيان يرفرفان بهدوء، يناسب جلال اللحظة. ولا تغيب عن الحديث لحظات فكاهة، عن استعراضات “أبو عمار” الكثيرة لحرس الشرف والسير على السجاد الأحمر كلما هبط من طائرة، أو مروحية “مستعارة”. ثمة من علق: كان الرجل مهجوساً بفكرة “الدولة” من خلال المظاهر البسيطة، وتسويق ما اعتبره “اتفاق الضرورة”، لعله يرى “زبدة” في لحظة ما.

من بين الحضور أحد العسكريين الفلسطينيين البارزين، والذي “لم ير في أوسلو ولو طيف فرصة”، لكنه تحت ضغط الكلام عن “دولة تبنى”، قرر القيام بزيارة البلاد، أو ما بقي منها. أصر الاحتلال على إبعاده “بعد انتهاء مدة التصريح” فتبخرت سريعاً سلة أوهام لم تدم طويلاً، ولكنه رأى البلاد التي لم يكن قد رآها، وحاول العودة إليها مُحرراً سنوات طوال. تلك كانت سنوات الأحلام العريضة.

وفي الحضور قائد سياسي، لم ير البلاد إلا بعد واحدة من حروب غزة. أفاق صباح اليوم التالي لوصوله في غرفة فندق على شاطئ غزة. ملأت الدهشة قلبه، حينها نظر إلى البحر قائلاً: “كل هذا لنا”. استعاد الشاعر الذي لطالما ردد: “هذا البحر لي”.

يروي سياسي آخر حجم الضغوط التي مورست على قيادة “التنظيم” كي توافق على إرسال قائدها الأول من أجل المشاركة في “بناء الدولة”. دفع القائد الذي استجاب للضغوط حياته ثمناً لمحاولته استئناف المقاومة من الأرض التي فرح لرؤيتها. تحققت نبوءة قائد فلسطيني قال له: إن كانت رغبتك أن تدفن في فلسطين، فإذهب الآن.. لا تتخيل أنك تستطيع القيام بشيء آخر تحت ظل هذا الاتفاق”.

يمضي الحديث ما بين وجع ووجع، وقد يأخذ الوجع شكل ضحكة، أو طرفة. لكن المحصلة تدور حول سنوات قصار من “الأوهام” التي صدقها البعض، وكاد البعض الآخر يرى نفسه في موقع الدفاع عن الذات لأنه لا يريد أن يصدق. لم تكن من حاجة لمداخلة طويلة عن الفارق بين الحلم والوهم. ولا عن أهمية أن يرتكز الحلم في جانب منه على رزمة حقائق. أو على قراءة دقيقة للواقع. الواقع نفسه اليوم يتكفل بالكثير حتى لتبدو تلك “المطالعات الفلسفية” إلى حد ما، شيئاً من الترف، أو أنها تمثل تمهيداً للانتقال إلى حديث من نوع آخر. وهو الحديث الذي سوف يتفق فيه الجميع على أن الراهن الفلسطيني ينطوي على تعقيدات استثنائية، ويواجه مخاطر كثيرة، دون أن يفقد الفرص تماماً.

دولة في ذكرى النكبة:

كان اتفاق أوسلو الموقع عام 1993، يتضمن في متنه نصوصاً عن مرحلة انتقالية لسنوات خمس، قبل الوصول إلى الدولة، بحسب “النص الفلسطيني”، والتفاوض على الدولة بحسب “النص الإسرائيلي”. ثمة رمزية هائلة للتاريخ، لو أن النص الفلسطيني كان مستنداً إلى رؤية ملائمة للواقع، بمعنى قيام دولة فلسطين في الذكرى الخمسين لنكبة فلسطين أي عام 1998. وكان يمكن لمن يهتم بلعبة الرموز أن ينتبه إلى أن إعلان قيام “دولة إسرائيل” جاء بعد خمسين عاماً من المؤتمر الصهيوني الأول.

لعب الخطاب السياسي الفلسطيني طوال عقود دوراً كبيراً في جعل “الدولة” غاية المنى، ومدار المشروع الوطني الفلسطيني كله. بدأ هذا المسار عام 1974، مع البرنامج المرحلي (النقاط العشر) الذي جرى اعتماده في أعقاب حرب تشرين أول/ أوكتوبر 1973، وفي سياق التهيؤ للمشاركة في التسوية. سوف يكون سهلاً هنا اكتشاف أن “للأوهام” عمراً أطول من عمر أوسلو.

في تلك الجلسة استعاد الحضور ذكر النقاشات التي دارت في الأوساط الفلسطينية، مع بدء التحضير للمؤتمر الدولي للسلام،  حول مصير الضفة الغربية، وما إذا كان على الفلسطينيين تركها تعود للأردن، أو يقيموا هم دولتهم فيها، أو أن يدعوها بعهدة دولة عربية أخرى، أو تحت إشراف الأمم المتحدة. لم يبق الأمر في حيز النقاشات كما هو معروف، بل تبعه انقسام فلسطيني- فلسطيني، جاء منسجماً مع الاستقطابات العربية التي كانت قائمة آنذاك. ولم يتوقف الانقسام رغم فشل المؤتمر الدولي، وتعثر مسار التسوية كله. وفقط حين ذهب الرئيس المصري أنور السادات إلى فلسطين المحتلة، ثم عقد اتفاقية كامب ديفيد مع دولة الاحتلال، أدرك الفلسطينيون أنهم تقاتلوا على التصرف في أرض لم يكونوا قد حرروها بعد.

يخطئ من يعتقد أن القيادة الفلسطينية قد كفت بعد هذا الدرس عن التورط في “أوهام” متعددة حملتها اسم الحلم الوطني. ولذلك فإن كثيرين قد امتلكوا حصانة كافية ضد الأوهام، عندما بدأ التسويق لاتفاق أوسلو بوصفه “حلاً تاريخياً” للقضية الفلسطينية، ومساراً سوف يفضي إلى “دولة فلسطينية مستقلة، وعاصمتها القدس” خلال سنوات خمس، وقد تزيد قليلاً.. قليلاً وحسب.

ليس من ضرورة لاستعادة مسار أوسلو خلال خمسة وعشرين عاماً. فالكل يعرف أن “سنغافورة الشرق الأوسط” التي جرى الوعد بها، هي اليوم جزر محاصرة ومطوقة بالاستيطان، وجدار الفصل، وجيش الاحتلال. و”متعيشة” على الهبات والمساعدات، التي يقدمها “المانحون” مشروطة بالبقاء ضمن الاتفاق، مثل حال الضرائب التي يقوم الاحتلال بجبايتها، وتحويلها إلى السلطة، مشروطة بالبقاء في منظومة “التنسيق الأمني” معه. والاتفاق الذي جاء حصيلة مفاوضات سرية، وصيغ كنص مفخخ، فيه سياسة واقتصاد وأمن. هو حكم ذاتي (أو أقل، حقيقة)، مع اقتصاد تابع ومسيطر عليه (احتاج الشق الاقتصادي منه إلى نصوص خاصة، حملت اسم بروتوكول باريس الاقتصادي)، ووظيفة أمنية، هي التي تشكل أولوية الاحتلال الأولى وغرضها الأساس من الاتفاق كله.

في الاستعادة تذكير بمواقف كانت صائبة وهي ترى في الاتفاق فرصة الاحتلال للإمساك برقبة “الهيئة الفلسطينية الرسمية” وتحويل أجهزتها (وكوادرها ومقاتليها) إلى مؤسسات أمنية “في خدمة الاحتلال”. لم يكن هذا محصلة لجهود الجنرال الأمريكي “دايتون” الذي أعاد بناء الأجهزة الأمنية الفلسطينية التابعة للسلطة في أعقاب الانتفاضة الثانية، بل بدأ العمل الأمني مباشرة مع وجود السلطة، وصرح حينها أحد أبرز قادة الجهاز الأمني بأن مهمته “حماية أمن المستوطنين” دون أن يرف له جفن. صحيح أن التنسيق الأمني (وهو عار كامل) قد ازدادت وتيرته، بعد الانتفاضة الثانية واستشهاد ياسر عرفات، لكنه ركن أساس في اتفاق أوسلو من نقطة البدء.

علق أحد الحاضرين بتهكم مر: “تقولون إن أوسلو لم يعطينا دولة. تلفتوا جيداً. أعطانا دولتين، واحدة في رام الله، وأخرى في غزة”. بصعوبة يمكن انتزاع ضحكة، ولو باهتة على هذا المشهد السوريالي. ولكن التهكم كان فرصة لمغادرة الذكريات البعيدة إلى ذكريات قريبة جداً، وإلى المحايث من آلام.. ورؤى وأفكار يتم تداولها للخروج من المأزق.

إلى ما قبل المشروع الوطني:

في الشهرين الماضيين استقبلت موسكو وفوداً فلسطينية للتشاور. أحد الحاضرين كان ضمن وفد التقى معاون وزير الخارجية الروسي بوغدانوف. يقول: “إن المسؤول الروسي حذر من التقاهم من استمرار الوضع الفلسطيني القائم، ودعاهم إلى إنجاز مصالحة، وإحياء منظمة التحرير الفلسطينية، والتوافق على برنامج عمل وطني. إن لم يفعلوا فإن المخطط الذي يجري العمل عليه سوف يعيدهم إلى مرحلة ما قبل المشروع الوطني وحضور منظمة التحرير الفلسطينية. عملياً سوف يوكل أمر غزة إلى مصر، ويعود الأردن إلى دوره السابق في الضفة الغربية ولكن بصيغة جديدة، تتحول فيها السلطة إلى اتحاد بلديات برئاسة شخصية فلسطينية لا صلة لها بمنظمة التحرير تتبع الحكومة الأردنية، وذلك لإدارة شؤون الحياة اليومية في (“التجمعات الفلسطينية”). طبعاً لا سيادة ولا دولة ولا.. وفي غزة يتم التفتيش عن شكل آخر، أو صيغة للإدارة، تحت الإشراف المصري الكامل”.

عند هذه النقطة تنصب النقمة على السلطة (محمود عباس) وعلى حماس، فهما لا يذهبان نحو المصالحة بل نحو تقاسم الأوهام والمحاصصة ملحقين ضرراً هائلاً بالقضية الفلسطينية، وحقوق الشعب الفلسطيني ومشروعه الوطني كله. وهناك أيضاً من يقوم، محقاً، بالربط بين تحذيرات المسؤول الروسي، وصفقة ترامب التي بات الفلسطينيون على قناعة بأنها في طور التنفيذ قبل الإعلان عنها. فبعد القدس جاء دور الأونروا. ولعل أخطر ما يثار هنا هو الحديث عن إعادة تعريف اللاجئين الفلسطينيين. ببساطة يجري العمل على اعتبار اللاجئين هم من اقتلعوا من فلسطين عام 1948، أما أولادهم وأحفادهم فليسوا كذلك. تطبيق مثل هذا الإجراء يعني نزع صفة اللجوء عن ملايين الفلسطينيين، واقتصارها على ثلاثين أو أربعين ألفاً منهم لا يجوز أن تبقى هناك منظمة دولية متخصصة لإدارة شؤونهم، بمعنى أنه لا حاجة لوجود الأونروا كي تعمل من أجل هذا العدد المحدود جداً من الناس.

يلفت أحد الحاضرين إلى أن ترامب قال بعد قراره بشأن القدس: أزحنا عقبة كبيرة من أمام المفاوضات. ولعله يتطلع الآن، إن نجحت خططه بشأن الأونروا، إلى القول: أزحنا ملف اللاجئين من أمام المفاوضات أيضاً. ويذكر آخر، أن إدارة الرئيس الأمريكي اشترطت على دول الخليج العربي إن أرادت تمويل الأونروا حتى نهاية العام، أن تلتزم بالموافقة على إعادة تعريف اللاجئ الفلسطيني. كما يلفت إلى تصريح وزير في حكومة نتنياهو، يقول فيه: إن ترامب يجري اتصالات ويمارس ضغوطاً على أربع دول عربية لتوطين اللاجئين الفلسطينيين فيها.

تمر في ثنايا الحديث إشارات إلى النزيف الديمغرافي الذي يتعرض له اللاجئون الفلسطينيون. بعد فتح معبر رفح تدفق الآلاف من الشباب خارجين من قطاع غزة بلا عودة. واحدة من مشكلات الجهاز الصحي في القطاع اليوم، تتمثل في خروج أعداد كبيرة من الاطباء والمساعدين الطبيين من خلال المعبر…بلا عودة. وفي أماكن أخرى يبحث عدد كبير من اللاجئين عن فرصة للهجرة. بعض الحكايات صادمة، خصوصاً عند التطرق إلى الأرقام، فالاستيطان الذي تضاعف في ظل أوسلو أربع مرات، والارتفاع غير المسبوق في عدد المستوطنين في الضفة، وإجراءات تهويد القدس المتنوعة، يقابلها ذلك النزف الكبير في أعداد اللاجئين بسبب الهجرة.

 هنا يصبح مفهوماً تماماً وصف أوسلو بالكارثة التي أحاقت بالشعب الفلسطيني وقضيته. واحدة من انعكاساته الكبرى: تقزيم قضية الشعب الفلسطيني، واعتبار فلسطين الضفة وغزة. واعتبار الفلسطينيين هم من يقيمون فيها، أما اللاجئون الذي أدرجوا تحت بند قضايا الوضع النهائي، أو القضايا المؤجلة، فتركوا لمواجهة مصيرهم..وحيدين.

إعادة بناء المشروع الوطني الفلسطيني:

عند ذكر مسيرات العودة الأسبوعية في غزة تتبدد بعض السحب القاتمة من المشهد. أوسلو لم يستطع أن ينهي مقاومة الشعب الفلسطيني. غزة نقطة اشتباك قائمة. غزة التي تتحدى بالمسيرات والطائرات الورقية والبالونات الحارقة، وسلاح المقاومة، وقدرتها وإصرارها في الوقت نفسه، على الرد في مواجهة اعتداءات الاحتلال المتكررة، تكشف بتحديها حدود قدرة الاحتلال، وربما عجزه عن المواجهة والذهاب إلى حرب قد تكلفه الكثير أيضاً. لسنا بلا أسنان أو قدرات، بل نملك الكثير منها أيضاً. ولعل المحاولات الدائبة لاحتواء غزة، عربياً وإقليمياً ودولياً تمثل مؤشراً على تنامي القلق من إمكانات غزة، ودورها في تغيير معالم المشهد على نحو غير متوقع، ويربك حسابات كثيرة. إرهاصات الانتفاضة في الضفة ورغم ضراوة التنسيق الأمني ما زالت قائمة. والعمليات الفردية التي تقع بين فترة وأخرى تدل على الطاقة الكفاحية الكامنة لدى الفلسطينيين في الضفة. الشعب الفلسطيني متمسك بحقه في العودة إلى أرضه. واللاجئون الفلسطينيون ما زالوا كتلة حيوية فاعلة، وقادرة على التأثير في مجريات القضية الوطنية ومستقبلها. في الداخل الفلسطيني المحتل عام 1948، أكثر من مليون ونصف المليون فلسطيني يتمسكون بهويتهم، وباتوا أكثر جرأة ووضوحاً في تعيين هويتهم الوطنية والقومية، ويشكلون صداعاً مزمناً لدولة الاحتلال التي تنكشف بوصفها دولة عنصرية فاقعة ومأزومة، بعد إقرار “قانون القومية”. ثمة حركة رافضة للتطبيع عربياً رغم اندفاعات بعض الدول الخليجية، وغير الخليجية، وهناك حركة تضامن دولية مع الشعب الفلسطيني تتسع باستمرار، ومن الممكن تحويل التحدي إلى فرصة.

هل هذا ممكن؟

عند الالتفات إلى التحديات التي تواجهها القضية الفلسطينية والشعب الفلسطيني، يمكن القول بأن هناك هجوماً شاملاً يحمل عنوان: صفقة القرن، وتتعدد مجالاته وعناوينه. وفي لحظة البحث عن فرصة يصير لزاماً مغادرة مربع الأوهام، أيضاً بمجالاته المتعددة وعناوينه.

نقطة البداية تكمن في التخلص من أوهام أوسلو، ومنها وهم السلطة الذي تسبب بانقسام يبدو عسيراً تجاوزه والتخلص منه. في الأسابيع المنصرمة، دار حديث عن تهدئة في غزة. هي محاولة احتواء لتمرير حلول في الضفة تحت وطأة التغول الاستيطاني. ثم شهدنا ذلك النقاش الممض حول أولوية التهدئة أم المصالحة، ولم يتحقق لا هذه ولا تلك. سلطة رام الله خائفة على “الشرعية”، وسلطة غزة خائفة على “مكتسباتها”، ومن يريدون الاحتواء يريدون “غزة هادئة” وحسب. مقابل تحسين ظروف الحصار والخنق. جعلها أقل وطأة على الحياة اليومية للغزيين. البعض وقع مجدداً في وهم دولة غزة، ووهم الإشارات الأمريكية وغير الأمريكية إلى تخطي السلطة في رام الله، والحديث مع “الموجودين في غزة”. هذا البعض سر كثيراً بكلام ضابط مخابرات مصري عن إمكان تحصيل اتفاق تهدئة ورفع حصار، حتى لو رفضه أبو مازن، ثم تكفلت الوقائع بتغيير المسار مرة أخرى.

قصارى القول، إن الاستمرار في الحديث عن المصالحة، ومعالجة ملفاتها المتشعبة، يشكل آلية إلهاء تحجب المشهد الكلي. عملياً فإن الانقسام ومساعي المصالحة هي من إفرازات أوسلو وأوهامه الكثيرة. كما أن تصور استثمار عناصر القوة الموجودة في غزة، لتحويل الاحتواء الذي ينشده البعض إلى اتفاق سياسي يكرس الانقسام، وينتج شكلاً “دولتياً” في القطاع، هو وهم أيضاً.

يدرك الجميع أن مصالحة دون برنامج وطني يجدد المشروع الوطني الفلسطيني، ويعيد الاعتبار لمكانة القضية الفلسطينية، هي في المحصلة مجرد تنويع على الأوهام التي أنتجها اتفاق الوهم نفسه. من المفيد أن نتذكر قولاً لشمعون بيريز في وصف الدولة المتحصلة عن أوسلو في بعض الخطاب الفلسطيني آنذاك: “فليسموها إمبراطورية إن أرادوا”. اليوم: قتال على “الشرعية” و”المكتسبات”. والبعض يسميها: معركة خيارات وطنية تخص المستقبل. هذا بعيد عن الحقيقة كلياً. ومثله فكرة “دولة” مطوقة ومحاصرة ومخترقة بالاستيطان.

وإذاً،

يتوجب صرف الجهد كله في إعادة بناء المشروع الوطني الفلسطيني. يتم تداول “أفكار” في أوساط فلسطينية مختلفة، وتعقد لقاءات بعناوين متعددة، على أن أبرز ما يتم الحديث فيه، عنوانان، الأول: دحر الاحتلال دون قيد أو شرط. والثاني: العودة إلى المنطلقات الأولى والميثاق الوطني الفلسطيني.

يبني أصحاب العنوان الأول رؤيتهم انطلاقاً من جملة وقائع على النحو الآتي: مكانة غزة ودور المقاومة فيها. استهداف الضفة بالاستيطان والمشاريع السياسية. العدو الذي يحاول احتواء غزة ليمرر مشاريعه في الضفة، عبر اقتراحات التهدئة، تبدو قدرته على المواجهة في غزة محدودة، وتكاد تشبه وضعه مع المقاومة في لبنان إلى حد كبير. وهناك طاقة كفاحية كبرى لدى الفلسطينيين في الضفة، والذين يتزايد إحساسهم بأن المخططات التي تستهدف القضية الوطنية، وتركز عليهم خطيرة جداً. ومع السيولة في الوضع العربي وبدء تعافي سوريا، والمآزق العديدة للمطبعين والمتجاوبين مع صفقة ترامب، تتوفر فرصة لتخطي الواقع القائم وفتح أفق جديد للقضية الفلسطينية.

أما عن الآلية، فيدعو أصحاب هذا العنوان إلى تشكيل ائتلاف وطني عماده الأساس القوى التي لا تزال مؤمنة بخيار المقاومة وتتبناه (فصائل، شخصيات وطنية مستقلة، حركات شبابية غير فصائلية) يتخطى كل المفردات المطروحة في المشهد من المصالحة إلى المفاوضات والتسوية وما بينهما، ويقوم بتعزيز الصمود في غزة، إطلاق انتفاضة شعبية في الضفة، تتدرج من التحركات الجماهيرية الواسعة وصولاً إلى العصيان الوطني الشامل، ويكون هدفها: دحر الاحتلال دون قيد أو شرط.

في رد على المخاوف التي تتعلق بموقف السلطة وأجهزتها الأمنية، يدعو هؤلاء إلى عدم الصدام مع أجهزة السلطة، ويرون أن انتفاضة شعبية شاملة سوف تحدث تحولات كبرى، تغيب معها الأدوار الراهنة الناتجة عن اتفاقات أوسلو، ولن تستطيع أجهزة السلطة مواجهة هذه التحركات، وقد تحدث تغيرات كبيرة في صورتها ودورها.

أما أصحاب العنوان الثاني، فيضيفون في قراءة المشهد إلى ما يقوله أصحاب العنوان الأول، أن قيام كنيست دولة الاحتلال بإقرار ما سمي “قانون القومية”، يقفل مرحلة بكاملها دار فيها الحديث عن “حل الدولتين” والدولة الواحدة، وغير ذلك من تصورات بدا فيها أن المقتول يتوجب عليه أن يقدم مخارج للقاتل. كما أن قرارات إدارة ترامب الكثيرة، وآخرها إقفال مكاتب منظمة التحرير والسلطة في الولايات المتحدة، تعني حرباً مفتوحة وسافرة على الشعب الفلسطيني.

لذلك، فما دام الصهاينة مدعومين بالولايات المتحدة يعتمدون الرواية الصهيونية للصراع بكل مفرداتها، فإن على الفلسطينيين أن يعودوا مجتمعين إلى تبني روايتهم التي تخلوا عنها خدمة لأوهام التسوية، بمعنى التمسك بتحرير فلسطين كلها، وحق الشعب الفلسطيني في ممارسة كافة أشكال النضال من أجل استعادة حقوقه كلها.

تتضمن النقاشات تفاصيل كثيرة. ثمة من يرى أن لا مخارج من الوضع القائم، ويستحضر مفردات هجوم ترامب، وسوء الأوضاع العربية، ليصل ما يشبه حالة من اليأس الكامل. وثمة من يرى أن النظر إلى ما نملكه من عناصر قوة، ومن بينها حقيقة تقدم الرواية الفلسطينية في العالم كله، يدفع إلى خطوات استثائية حتى لو بدت مثل حلم. كثير من التحولات الكبرى في تاريخ الإنسانية بدأت حلماً.

أهم من كل ذلك، أن التحرر من الأوهام قد وقع. قلة من المكابرين، تفقد قدرتها على مقاومة الاستيقاظ تدريجياً. ومن يغادر الوهم سيرى الواقع بصورة صحيحة.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *