حين يصير الوطن حقيبة

انتصار الدنان

حين يصير الوطن حقيبة سفر يحتضنها المرء، يجرّها خلفه أينما كانت وجهته، يظل عبق تراب الأرض مربوطًا بتلك الحقيبة.

ورواية “عسل المرايا” للكاتب نافذ أبو حسنة هي تلك الحقيبة التي تنقّل الكاتب بها من بلد إلى آخر عبر شخوصه الذين اختارهم لها، فقد حملت تلك الحقيبة حروب الوطن العربي التي صار يتتالى بعضها خلف الآخر، تشهد انهزامات وانكسارات على امتداد الفترة التي اختارها الكاتب لروايته. فقد عبّأ الكاتب في حقيبة ترحاله المستمر تلك النزعة الإنسانية والصراعات الداخلية التي يشعر بها الإنسان، تلك الاختلاجات التي تختلط مرات عدة بالحب والخوف، التمرّد والهزيمة والانكسار، تختلط بالترحال الدائم الذي يحمل وجع المغيب، وحرقة اللااستقرار.

منذ بداية الرواية، استطاع الكاتب أن يفكك النزعة الإنسانية لدى شخصياته التي كانت الأداة المحرك، والمحور الأساس للرواية، فالرواية هي الإنسان بحد ذاته، بما يحمله من توترات وإرهاصات وتخبطات.

تسلسل الرواية يُدرك بداية بالقلب، لا بالعقل فقط، لأن الكاتب، بانتقاله السريع من مكان إلى آخر، وباضطراب مقصود لإظهار حالة التوتر الدائم عند الشخصيات، وكذلك البلاد المُتحدّث عنها، يجعلها شاخصةً أمامك، حيث تنسجم مع الرواية بالمكان والناس الذين يعيشون في ذلك المكان، فيصور الحدث بمشهدية سرديةٍ تحملك من الواقع المقصود إلى الواقع المتخيل أمامك.

تدور أحداث رواية “عسل المرايا” في ثلاث مدن عربية، بغداد، بيروت، وغزة. هذه المدن ترسم معالم وجعها مدن عربية أخرى، يتكلم عن احتلال العراق، وانكسار حضارة أمة عريقة، ومن ثم ينتقل سريعًا إلى بيروت، إلى احتلال الإسرائيليين لها في 1982، وبعدها دحره من لبنان.

بعد قصّ حكايات الهزيمة والنصر، فالمقاومة حاضرة في المدن كلها، لكنها في بيروت كانت مختلفة المعالم، من انكسار ورتابة عيش فيها، إلى انتصار تشهده الحدود الجنوبية القريبة من فلسطين، وذلك كله بفعل المقاومة. وبعد ذلك، النصر الذي تشهده الحدود اللبنانية، ينتقل سريعاً إلى غزة مدينة بطل الرواية عبد الرحمن، المدينة التي شهدت بعد اتفاق أوسلو تغييرات عديدة، وصارت عرضة للتفتيت والانفلات، وللقصف والدمار والموت. لكن الرواية لا تغفل انتفاضة أبناء غزة التي أعادت إلى تلك المدينة روحها، ويأتي ذلك كله من خلال السرد القصصي الذي اعتمده الكاتب في روايته.

وجاءت شخوص الرواية حقيقية، تعبر عن واقع الحياة المعاش، ولم تكن الأحداث رتيبة، بمعنى فَقد روحية الكتابة والنقل المتسلسل للأحداث بطريقة سلسة ومحببة للقارئ، لا بل على العكس كانت تعكس الواقع المعاش الحقيقي.

ولا تغفل الرواية قصص الحب، فقد كان حاضراً بصوره المختلفة، وباختلاجاته المتعدّدة، فالنزعة الإنسانية المعاشة هي التي سيّرت تلك الشخصيات، وجعلتها تتكلم بمصداقيةٍ وعفوية، وإن جاءت تلك القصص على عكس المتوقع لها، مع نهاية كل رواية من روايات الحب.

ولكن، يُسجل للرواية أنها جاءت لتؤرخ لحقبة زمنية محددة، عاشها الواقع العربي، بدْءًا من الاحتلال الإسرائيلي بيروت، وسقوط بغداد، إلى انتفاضة غزة الثانية، وذلك أيضاً من دون إغفال النزعة الإنسانية فيها، والتاريخ الإنساني يجب أن يُحفظ، فجاء هنا بصيغة السرد القصصي المتميز، وإن ألقى عليه الكاتب تلك الروح القلقة المضطربة، وكل ذلك كان سببه الترحال المستمر والدائم للفلسطيني.

بالإضافة إلى كل ما ذُكر، لم يغفل الكاتب في روايته قصة الإذعان العربي للآخرين، الإذعان الذي يحمل شعارات بالية، لم تجلب للوطن العربي غير الهزيمة تلو الأخرى. ويلخص مشهدان مرا في الرواية الوجع الذي أراد الكاتب إظهاره، الموت والغربة، الموت بعيدا عن الوطن، والغربة بحقيبة سفر تتنقل مع حاملها من بلد لآخر.

دموع عبدالرحمن على موت أبيه الذي يمثل القضية الفلسطينية، ودموع ضرار ساعة السفر حين حمل حقيبته تاركاً خلفه دموع أمه، ووجع بلده الذي صار منهزماً.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *