حينما يعجب رئيس السلطة بنفسه

بدا رئيس السلطة الفلسطينية السيد محمود عباس معجبا كثيرا بنفسه،أثناء المقابلة التلفزيونية التي ظهر فيها على شاشة الفضائية اللبنانية الأسبوع الماضي.وقد واظب رئيس السلطة على إلقاء نظرة جانبية،يتوجه بها إلى أحد الجالسين على مقربة منه، متوقعا نظرة إعجاب مماثلة لزهوه بنفسه،وبما أفاض به من مواقف.ولم يطل بالمشاهدين وقت الانتظار لمعرفة سعيد الحظ هذا،إذ بادر المخرج الذي لفتت انتباهه تلك النظرات الرئاسية،فأزاح الكاميرا قليلا ليظهر المتحدث باسم عباس السيد نبيل أبو ردينة،جالسا وقد غمرته السعادة،وملأت وجهه علامات الإعجاب والإطراء. أو هكذا خيل لنا،ذلك أن مهمة السيد أبو ردينة الرئيسية هي تسويق مواقف الرئيس،أيا كانت.

ثمة قواعد معروفة في التعامل مع الكاميرا.ومنها أن يثابر “الضيف” على النظر في وجه محدثه،أو من يجري المقابلة معه،دون خطف نظرة من هنا،أو توجيه التفاتة هناك،قد تظهره مشتتا،أو شارد الذهن،أو مرتبكا خائفا،أو معجبا بنفسه وحريصا على مشاهدة إطلالته.وهذه كلها إشارات سلبية للمتلقي،وتضعف حضور المتحدث،أيا كانت صفته أو موقعه. وعمليا لم يكن ينقص المقابلة سوى هذه القضايا المتصلة بالشكل حتى يكتمل المشهد الكاريكتوري لرئيس السلطة،المزهو بنفسه.

بعيدا عن الشكل،عرض عباس مواقف تتصل بالمصالحة الفلسطينية وتشكيل حكومة التوافق الوطني،ومسار ومستقبل التسوية،والذهاب إلى الأمم المتحدة،والخيارات المستقبلية،والوضع العربي.

وفي كل ما قاله،لم يخالف رئيس السلطة،ما هو متوقع منه،أو ما هو معروف عنه من مواقف.لكنه وكالعادة كان يملك ما يزيد عن الحاجة من الاستعراضات الفجة،وما يعتبره “لغة صادمة” من قبيل القول:”الكفاح المسلح خرب بيتنا”. وربما تكمن مشكلة السيد عباس في أن هذا النوع من العبارات أيضا،لم يعد مما يحسب على خانة الاستثنائي،إذ سبق للرجل أن وصف العمليات الاستشهادية بأنها “حقيرة”.

رئيس السلطة كرس جانبا كبيرا من المقابلة للمنافحة عن سلام فياض.وهذا دأبه،حتى في مواجهة المواقف المناهضة لرئيس حكومة السلطة،والصادرة عن أقطاب في حركة فتح.لكن دفاع عباس هذه المرة جاء في أعقاب توقيع اتفاق المصالحة بين فتح وحماس،ورفض الأخيرة القاطع لتولي فياض رئاسة حكومة الوحدة. وهو بذلك كان يجدد القول: “إما أن تسير هذه المصالحة كما أريد،أو أقوم باسقاطها”.

أثناء مراسيم توقيع الاتفاق في القاهرة،طالبت حماس بإبداء قدر من حسن نية السلطة ورئيسها،بالإفراج عن المعتقلين السياسيين أو بعضهم.وهنا كان رد عباس بأن أي إفراج عن المعتقلين لن يتم إلا وفق “القانون”. لم يسأله أحد عن القانون المقصود؟ وربما كان واضحا لكل ذي عينين أن عباس جاء إلى القاهرة،متمنيا أن ينجح في إغضاب طرف فلسطيني،ويستطيع تحميله وزر إفشال المصالحة.وهكذا أطلق ردودا استفزازية كثيرة،وخبأ ورقة فياض إلى اللحظة التي حان فيها البحث الجدي،في إسناد رئاسة حكومة التوافق لشخصية مستقلة. وسبقت هذا الموقف تصريحات عديدة لقيادات من حركة فتح،بعضها تبنى ترشيح فياض،وبعضها الاخر قال:إن اسم فياض أضحى خارج التداول. وحده عباس لاذ بالصمت تاركا لأعضاء المركزية متابعة المناورة،أو ربما الحديث بمكنونات نفوسهم.وإذ ركن الجميع إلى فكرة التدوال في أسماء عدة،باستثناء فياض،جاءت لا قاطعة من عباس.

في المقابلة عمد رئيس السلطة إلى متابعة لهجته التصعيدية الاستفزازية،فهو لم يكتف بالتمسك بفياض،عالما بتداعيات ذلك على المصالحة،بل  شدد على أن الحكومة هي حكومته.وتنفذ سياسته،وهو المسؤول عنها،حتى كاد يقول لمن وقعوا اتفاق المصالحة: لقد فوضتموني ولا شأن لكم بأي شيء بعد الآن. ولم ينس في السياق،توجيه المديح لمبارك وطاقمه محملا حماس مسؤولية التأخير في إنهاء الانقسام. وكأن شعبنا بلا ذاكرة،ولم يكن يعرف من الذي أطال أمد الانقسام،وبأي شروط،ولأية أغراض.

وإذ جاء وقت الحديث عن التسوية،قال عباس إنه جاهز لبدء المفاوضات فورا إن توفرت الفرصة لذلك.وإن لم تحن،فهو قادر في كل جولة على جلب موافقة دول إضافية على الاعتراف بالدولة الفلسطينية في سبتمبر المقبل. وتحدث مزهوا عن جلب عشرة اعترافات في جولة واحدة،وأنه لم يتبق سوى القليل من الوقت،حتى تكون بقية الاعترافات في جيبه.ولكن إن كان الأمر كذلك فلماذا الجاهزية للعودة إلى المفاوضات فورا؟ ولماذا الحنين إلى ما أنجزه من تفاهمات مع أولمرت؟

في كل ما يتصل بهذا الأمر تحدث عباس بوصفه المعني الوحيد والأوحد. لا رأي لفصائل.لا رأي لقوى،ولا لشعب أيضا. فهو من سيذهب إلى الأمم المتحدة. وهو من يستطيع أن يقرر عكس ذلك. هو فقط.

رئيس السلطة لم يكتف بالزهو، بل ولجأ إلى الإثارة والإدعاء. فلدى الحديث عما شهده مخيم اليرموك من هجوم على مجمع الخالصة التابع للجبهة الشعبية- القيادة العامة،أصر عباس على القول بأن هناك أربعة عشر فلسطينيا قتلوا برصاص حراس المقر.لقد مضى وقت على الحادث الأليم،والجميع يعرف بأن العدد الإجمالي لمن سقطوا في ذلك اليوم هو خمسة فقط،من بينهم ثلاثة من أعضاء وكوادر الجبهة الذين تعرضوا للتمثيل بجثامينهم بعد استشهادهم.لكن رئيس السلطة الذي هاجم القيادة العامة،أراد أن يكون هجومه مشفوعا بأرقام مثيرة،وهو يعرف بأنه يكذب.

عباس الذي وضح في المقابلة عداءه لفكرة المقاومة، جدد الهجوم على قواها جميعا. وفي هذا يصح القول: ليس بعد الكفر ذنب.فليقل عباس ما يشاء.أما المصالحة….؟

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *