حماية المنظمة من الدولة الواقع الفلسطيني بحاجة إلى إعادة توصيف

وفق ما تسربه وسائل إعلام أمريكية وثيقة الصلة بالإدارة وذات تأثير في قرارها، تبذل واشنطن ما يمكن وصفه بمحاولة أخيرة وكبيرة بالوقت نفسه، لثني السلطة الفلسطينية عن التوجه إلى الأمم المتحدة، خلال الشهر الجاري بغية نيل الاعتراف بدولة فلسطينية مستقلة، على الأراضي الفلسطينية المحتلة عام 1967.

يتركز الجهد الأمريكي كما بات معروفاً، على جلب السلطة وحكومة الاحتلال إلى طاولة التفاوض من جديد. أما الجديد فحديث عن مبادرة أمريكية تشكل إطارا للمفاوضات المزمع عقدها.

لواشنطن أسبابها في مناهضة التوجه الفلسطيني إلى المنظمة الدولية، وهي لطالما عملت ولسنوات طويلة،على جعل نفسها مرجعية لما يوصف بالعملية السياسية، وكلمة السر هنا تتصل بحماية كيان الاحتلال وصياغة الظروف الملائمة  له في الحرب، كما في ما يسمى ب” صناعة السلام”. بَيد أن الإدارة الأمريكية تستمد كثيراً من الحماس لطرح المبادرة المشار إليها، من تصريحات قيادة السلطة التي تشدد دوماً، على أن المفاوضات هي خيارها الأساسي، وعلى أن التوجه إلى المنظمة الدولية، “ليس الأستراتيجية الفلسطينية، بل هو جزء منها”.

وللتذكير فإن الحديث عن التوجه إلى منظمة الأمم المتحدة، ارتبط بحدوث انسدادات في العملية التفاوضية، بعد توقيع اتفاق أسلو، فكلما تعثر تطبيق الاتفاق المزعوم، قيل لنذهب بالملف إلى المنظمة الدولية. في هذا ما خلق انطباعاً بأن الحديث عن الأمم المتحدة ودورها، دخل غالباً في مجال المناورة، إذ كانت تُستأنف المفاوضات قبل أن تتعثر من جديد.

الدولة والمنظمة .. ناقوس الخطر

مضت أيام من أيلول/ سبمتبر، والكلام الفلسطيني يدور حول النقاط ذاتها، لكن كلاماً آخر برز في الأفق: دراسة قانونية حول وضع منظمة التحرير في الأمم المتحدة، إذا جرى الاعتراف بدولة فلسطينية، وفق الطلب الفلسطيني.

ويبدو أن الدراسة أعدت بناء على طلب من السلطة الفلسطينية، والإشارات التي تعزز هذا الاحتمال عديدة في متن المطالعة التي أنجزها الخبير القانوني البريطاني”جاي جودوين جيل”

البروفيسور جيل، خبير قانوني مخضرم ورفيع المستوى في جامعة “أكسفورد” ومن ألمع أعضاء الفريق القانوني الذي فاز في محكمة العدل الدولية عام 2004 بقضية بناء جدار الفصل العنصري على الأراضي الفلسطينية المحتلة. تتضمن المطالعة “الوثيقة القانونية” تحذيرا واضحا مما تصفه بمخاطر جمة، تشكلها مبادرة الاعتراف بالدولة الفلسطينية. خصوصاً حق تقرير المصير، وعودة اللاجئين، وشرعية منظمة التحرير الفلسطينية كممثل شرعي ووحيد للشعب الفلسطيني.

بحسب “جيل” فإن نقل تمثيل الشعب الفلسطيني، في الأمم المتحدة من منظمة التحرير إلى دولة فلسطين، سيلغي الوضعية القانونية التي تحوزها منظمة التحرير في الأمم المتحدة منذ عام1975  . ومكمن الخطورة هنا، أن الشعب الفلسطيني سيفتقد إلى الجهة التمثيلية الجامعة، والتي كانت المنظمة تجسيدا لها طوال السنوات السابقة. كما تؤثر هذه الخطوة سلبا على تمثيل حق تقرير المصير، لأنه حق يخص كل الفلسطينيين سواء أكانوا في داخل الوطن المحتل أم خارجه. ويؤكد الرأي القانوني الذي عرضه “د جيل” أن هذا التغيير في الوضع التمثيلي سيهدد بشكل كبير حق اللاجئين في العودة إلى ديارهم وأملاكهم التي اقتلعوا منها قسرا.

وقال الخبير القانوني في مطالعته:”برأيي ، هذا يثير، أولا: ما أدعوه إشكاليات دستورية” (من حيث ارتباطها بالميثاق الوطني الفلسطيني والمنظمة والهيئات المشكلة لمنظمة التحرير).ثانيا: السؤال حول “قدرة” دولة فلسطين على أخذ الدور الفعال ومسؤليات منظمة التحرير في الأمم المتحدة. وثالثا: “السؤال حول التمثيل الشعبي”. وبعد مراجعة الهيكل الدستوري لمنظمة التحرير الفلسطينية، وتاريخ السلطة الفلسطينية (التي أسست من قبل منظمة التحرير كجسد إداري قصير الأمد، يتبع المنظمة، ويتولى إدارة مناطق في الضفة الغربية وقطاع غزة، المنقولة لإدارة السلطة بموجب اتفاقية أوسلو.) يؤكد البرفيسور جودوين جيل على ما هو معروف على المستوى العام:” السلطة الوطنية قدرة تشريعية وتنفيذية محدودة. سلطة محدودة على الأرض، وسلطة شخصية  محدودة على الفلسطينيين غير الموجودين في المناطق التي تسلمت مسؤوليات فيها.

ويستنتج البرفيسور جودوين جيل أن:” السلطة الفلسطينية هي جسم فرعي ثانوي في الهيكل الدستوري لمنظمة التحرير ونظام الحكم في الأرض الفلسطينية المحتلة، مخولة لممارسة السلطة التي منحت لها من قبل المجلس الوطني الفلسطيني. إذاً وَمن جوهر تعريفها، السلطة لا تمتلك القدرة على انتزاع قوة سياسية أكبر، لحل وتفكيك الجسم الأب، أو لتأسيس ذاتها بشكل مستقل عن المجلس الوطني الفلسطيني ومنظمة التحرير الفلسطينية، بل أكثر من ذلك، إن المجلس الوطني الفلسطيني ومنظمة التحرير الفلسطينية، يستمدان الشرعية من حقيقة كونهما يمثلان كافة شرائح الشعب الفلسطيني المهجر دون أي علاقة لمكان وجودهم الحالي أو مكان تهجيرهم”.

وتحذر الوثيقة بشدة من الآثار القانونية السلبية على وضعية الفلسطينيين في الشتات، إذ أن غالبية الفلسطينيين في الشتات ممثلون من خلال المجلس الوطني الفلسطيني. وجاء في الوثيقة:” إنهم يشكلون أكثر من نصف الشعب الفلسطيني، فإذا تم حرمانهم من حقوقهم وفقدوا تمثيلهم في الأمم المتحدة، فلن يكون هذا مجحفا فقط بحقهم في التمثيل المتساوي، وعلى عكس إدارة الجمعية العامة، بل سيمس أيضاً قدرتهم على التعبير عن آرائهم، ومشاركتهم في قضايا الحكم الوطني والتي تشمل بناء وتشكيل الهوية السياسية للدولة، وسيمس أيضاً قدرتهم على ممارسة حق العودة”.

إعادة بناء المنظمة:

من المتصور أن الوثيقة وكما أسلفنا وضعت بطلب من السلطة الفلسطينية، وربما تشكل رأياً من آراء تقدم بها خبراء في القانون الدولي، عشية قيام السلطة بخطواتها تجاه الأمم المتحدة، هذا يعني أن الجميع أصبح في صورتها الآن، ويجب أخذ المخاطر المشار إليها بنظر الاعتبار، لكن السوك الذي نراه من قبل السلطة ( وهي قيادة المنظمة في الوقت ذاته) لا يعكس تحسساً للمخاطر الجدية، والعمل من أجل تلافيها، بل إن هناك من يذهب إلى حد القول: إن المنظمة تتعرض منذ سنوات إلى القتل التدريجي، وتتطلع السلطة إلى التخلص منها نهائياً، وقد ساد قبل وقت ليس بالبعيد القول: بقيت للمنظمة وظيفة واحدة وأخيرة، وهي التوقيع النهائي على التسوية ثم تطوى في غياهب النسيان لتذوي، على طريقة “حكومة عموم فلسطين”.

واقع الحال أن المنظمة تواجه خطراً منظماً منذ توقيع اتفاق أوسلو والشروع في تنقيذه. وهناك من يرى أن المخاطر سابقة على هذا التاريخ. وفي كل حال، فقد شكلت المنظمة سلطة بموجب إتفاقية أوسلو، كذراع تنفيذي لإدارة مناطق إعادة الانتشار الذي نفذه جيش الاحتلال في الضفة وغزة. عمليا تحولت المنظمة إلى ذراع صغير من أذرع السلطة المحدودة. وتولت الأخيرة مهمات أساسية للمنظمة، منها البعثات التمثيلية لمنظمة التحرير في دول العالم، إذ أصبحت هذه البعثات تابعة للسلطة وليس للمنظمة.

مع تقليص وظائفها، وإهمال مؤسساتها، وإضعاف حضورها داخل فلسطين وخارجها،  حيث مناطق اللجوء والانتشار الفلسطيني، جرت عملية ذبح موازية للمنظمة، من خلال إفراغ برنامجها الوطني، وضرب ميثاقها عبر إلغاء مواد أساسية منه في الاجتماع/ المهرجان في غزة عام 1998 وبحضور الرئيس الأمريكي بيل كلنتون.

عكست كل هذه الإجراءات توجهاً عميقاً لإنهاء المنظمة، وتحويل السلطة إلى بديل عنها. وذلك انسجاماً مع تصور يقول بانتهاء مرحلة التحرير الوطني، والبدء في إقامة الدولة المستقلة بموجب الاتفاقات الموقعة مع دولة الاحتلال.

بدأ الترويج لانتهاء مرحلة التحرير الوطني مع أن آلاف الأسرى في السجون الصهيونية، والاحتلال قائم يمعن استيطاناً وتهويداً وقتلاً يومياً، فيما الملايين من الفلسطينيين الذين اقتلعوا من أرضهم ما زالوا ممنوعين من العودة إليها. أما الحديث عن الدولة فيشق الهواء يومياً، وكأنها أصبحت واقعاً متحققاً، ويقول البعض، إنه يقوم ببنائها تحت الاحتلال.

هذا المزيج من التصورات والأوهام والسوكيات، أنتج موقفاً وتعاملاً مع المنظمة، وكأنها قد أنجزت ما أنشئت من أجله، وقد انتفت الحاجة إليها الآن، ورغم أن الواقع بحقائقه العنيدة، كان يقدم صورة مخالفة تماماً، إلا أن من احترفوا معاكسة الوقائع ظلوا مستمرين في غيهم، وذهبت الدعوات من أجل إعادة إحياء المنظمة، أو حتى إصلاحها أدراج الرياح، بل إن حديث المنظمة فلوكلوري، تبدى مرات في إطار الحنين والذكريات، ومرات في ألعاب التكاذب وأحايث “فض المجالس”.

حقيقة الأمر أن المنظمة ما تزال تمثل ضرورة وطنية، بالقدر الذي نحتاج فيه إلى إعادة توصيف الواقع الفلسطيني، توصيفاً دقيقاً، نحن لسنا في مرحلة بناء الدولة، بل في مرحلة التحرر الوطني. ومرحلة التحرر الوطني تتطلب منظمة تحرير ببرنامج وطني كفاحي، يطرح الأوهام جانباً، ويمثل إجابة حقيقية على أسئلة الواقع.

المخاطر التي يتحدث عنها الخبير القانوني البريطاني معروفة. وتجنب هذه المخاطر بأن يعاد النظر في توصيف الواقع الفلسطيني، وصوغ السياسات الملائمة، بدل خبط العشواء الذي يضيع الوقت ويهدر الحقوق.

———

الثبات (العدد179) الجمعة -9أيلول-2011

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *