تأثيرات انتخاب الرئيس ميشال عون على الوضع الاقتصادي في لبنان

مقدمة

مع أنه يمكن التأشير إلى عوامل متعددة تقف وراء الأزمة الاقتصادية في لبنان، ومنها الأوضاع التي تعيشها المنطقة العربية، وخصوصاً سوريا الجار الأقرب والشقيق للبنان، فإن أحداً لا يستطيع إنكار حقيقة أن الفراغ الرئاسي الذي شهده البلد، وامتد لتسعة وعشرين شهراً، كان هو الآخر شديد التأثير على الوضع الاقتصادي، والذي وصفه البعض بـ “المنهار” عشية انتخاب الرئيس.

وعليه فمن المتيسر فهم موجة التفاؤل التي عمت الأوساط الاقتصادية والشعبية، بتحسن كبير ولافت في الأوضاع الاقتصادية، فور إعلان التوافق على انتخاب العماد ميشال لرئاسة الجمهورية، ومن ثم عقد جلسة الانتخاب، وتلاوة “خطاب القسم” الذي تضمن إشارات هامة إلى العمل على تحسين الأوضاع الاقتصادية.

ما تزال حالة من التفاؤل قائمة مع مضي نحو خمسة أشهر على انتخاب الرئيس، تقابلها توقعات تميل إلى التشاؤم وانعدام اليقين بالقدرة على إحداث تحول كبير، ولأسباب عديدة، منها المحلي، ومنها الإقليمي والدولي. ذلك أن الأوضاع الاقتصادية في بلد مثل لبنان، وثيقة الارتباط بالأوضاع السائدة في الإقليم، وهي متسمة بالاضطراب حتى الآن.

تسعى هذه الورقة إلى رصد الأوضاع الاقتصادية في لبنان، قبل وبعد إنهاء الشغور الرئاسي. ولهذه الغاية سوف تتوزع على المحاور الآتية:

  • الأوضاع الاقتصادية وآثار الشغور الرئاسي عليها.
  • تأثيرات انتخاب الرئيس والصدمة الإيجابية.
  • الوضع الاقتصادي الراهن.

الأوضاع الاقتصادية وآثار الشغور الرئاسي:

استمر الشغور الرئاسي في لبنان تسعة وعشرين شهراً متواصلة. خلال هذه الفترة كان تعبير “الأزمة” هو الأكثر جرياناً على ألسنة السياسيين والاقتصاديين، وعامة الناس أيضاً. وتزامن الشغور الرئاسي مع تصاعد الأزمة في الإقليم، خصوصاً في سوريا، ومع تزايد التهديدات الإرهابية للبنان، كما ترافق مع موجة نزوح هائلة من سوريا إلى لبنان، سببت ضغطاً هائلاً على الموارد الشحيحة أصلاً، ثم جاءت الأزمات مع دول الخليج والسعودية التي اتخذت جميعاً مواقف وإجراءات تركت آثاراً كبيرة على الأوضاع الاقتصادية في البلاد. ولذلك لم يكن مستغرباً ولا مفاجئاً أن تتحدث بعض التقارير في العام الماضي (2016) عن إمكان انهيار الاقتصاد اللبناني خلال أشهر.

فقد أصدرت “مجموعة “Assessment Capacities Project” (ACAPS)، وهي مجموعة مخصصة لدراسة الحاجات الانسانية في سوريا. وتضم ثلاث مؤسّسات “Action Contre la Faim- ACF”  و”منظمة غوث الأولاد” و”المجلس النروجي للاجئين”. تقريراً بعنوان إلى أين يتجه لبنان؟ ويعرض التقرير خمسة سيناريوهات يمكن أن تحدث في لبنان خلال الأشهر الستّة المقبلة، وتأثيرها على الوضع الداخلي. وأبرزها انهيار الاقتصاد اللبناني يليه انخفاض تلبية الحاجات الإغاثية  مع تراجع التمويل، ثم ارتفاع التوتّرات الاجتماعية، وزيادة نشاط الجماعات المسلّحة، ويختم بتوقع تعزيز التنسيق بين الأطراف السياسيين لتحسين الاستقرار الهش.

يورد التقرير أنه “بعد أربع سنوات من تباطؤ النمو وتراجعه من تسعة في المئة إلى إثنين في المئة، يواجه الاقتصاد اللبناني تراجعاً حاداً مرده إلى فشل الحكومة في الحفاظ على توازن الإقتصاد مع توقع وصول عدد النازحين السوريين المسجّلين إلى 1.5 مليون نازح بحلول نهاية هذه السنة إضافة إلى عوامل مثل، تدهور الاقتصاد العالمي، وغياب الاستقرار الإقليمي، وانعدام الأمن الداخلي وهشاشة مؤسسات الدولة”.

ويبين أن : ” البنى التحتية في لبنان لم تعد قادرة على تحمل الأعداد المتزايدة من النازحين السوريين التي فرضت تغيّرات جوهرية في الأسواق المحلية، خصوصاً في المجتمعات الفقيرة بالرغم من التأثير الإيجابي المحدود لهؤلاء على دورة الاقتصاد اليومية من خلال حركة النقد”.

ووفق التقرير الدولي “يساهم العجز الاقتصادي الكبير للدولة وارتفاع نفقات الحكومة لتأمين الموارد للنازحين، في زيادة الدين العام إلى مستويات لا تحتمل، وبالتالي زيادة الخطر على سيادة البلد وأمنه الاقتصادي والاجتماعي”.

ويوضح أن الاقتصاد اللبناني “يعتمد بشكل أساسي على الخدمات، وبالتالي فإن تعرّض لبنان لهذه الأزمات ساهم في مضاعفة البطالة إلى أكثر من 20 في المئة، كما يلعب التدفّق المتزايد للنازحين في ارتفاع نسبة اليد العاملة الرخيصة وتراجع الأجور”.

وتوقف التقرير عند تناقص احتياط المصرف المركزي بشكل كبير بسبب حزم دعم الاقتصاد، وعند الدور الذي يلعبه “المركزي” والمصارف التجارية في تغطية الدين العام القصير الأجل، ما يزيد الضغط على الليرة. ويأتي في نص التقرير: “أمام هذه التحديات، يشهد الاقتصاد اللبناني انكماشاً قوياً، ما أدى إلى إفلاس العديد من الشركات في القطاعات الرئيسية التي تعاني بشكل كبير من أزمة النازحين”.([1])

لم يكن هذا التقرير منفرداً في نبرته التشاؤمية حيال الأوضاع الاقتصادية والأمنية. فعدد من الخبراء الاقتصاديين اللبنانيين، عبروا هم أيضاً عن مخاوف كبيرة. فقد اعتبر الخبير الاقتصادي الدكتور “غازي وزني” أن “الوضع الاقتصادي والمالي في لبنان ما زال قاتماً وضبابياً نتيجة استمرار الأزمة الدستورية، وتعقد الاوضاع السياسية والأمنية في المنطقة، وضعف المساعدات الدولية للنازحين السوريين إضافة إلى تأثيرات تراجع مداخيل الدول النفطية في المنطقة على الاقتصاد اللبناني. وحول المؤشرات الاقتصادية والمالية في العام 2016  فقد رآهاعلى الشكل التالي:

– النمو الاقتصادي ضعيف ويقل عن 1,5 % مقابل 3% لدول المنطقة نتيجة أجواء عدم اليقين الذي يبعد المستثمر الاجنبي ويجعل المستثمر المحلي متريثاً، وأجواء عدم الاستقرار السياسي والأمني الداخلي الذي يخفف من مجيء السياح الأوروبيين ويحظر من مجيء السياح العرب ويضعف الاستهلاك الداخلي وأيضا نتيجة إقفال الطرقات والمعابر البرية بين لبنان ودول المنطقة الذي يتسبب بنقص حجم المبادرات.
– المالية العامة: يتوقع أن يبقى إنفاق الدولة على القاعدة الأثني عشرية أي من دون موازنة عامة للسنة الثانية عشرة، ما قد يتسبب باتساع العجز في المالية العامة الى 8,5 % من الناتج المحلي نتيجة الضغوط على النفقات العامة التي تطال الرواتب والأجور والنفقات الأمنية وكلفة النازحين السوريين وخدمة الدين العام ونتيجة عدم إدراج الحكومة إجراءات ضريبية جديدة تزيد من حجم الإيرادات العامة لتغطية الإنفاق الإضافي. أما الدين العام فيتوقع أن يصل في نهاية العام الحالي الى حوالى 75 مليار دولار ونسبته 140% من الناتج المحلي. و “الاستثمارات الأجنبية المباشرة يتوقع أن تتراجع في العام الحالي اكثر من 5% أي أن تصل إلى أقل من 2,6 مليار دولار مقابل 2,8 مليار دولار في العام 2015 نتيجة استمرار أجواء عدم اليقين وقلق المستثمرين من الأحداث السورية خصوصاً الخليجيين الذين كانوا يستثمرون في قطاعي السياحة والعقار”.([2]).

لم يغب الربط بين جملة العوامل التي قادت إلى تأزم الوضع الاقتصادي، وبين الشغور الرئاسي الذي كان له تأثير بالغ في زيادة حدة التأزم. وبتعبيرات رئيس تجمع رجال الأعمال اللبنانيين الدكتور “فؤاد مكحل”  فـ “في لبنان نواجه أربعة حروب داخلية وإقليمية تبدأ داخلياً في الفراغ الرئاسي إلى التعطيل الحكومي إلى الشلل في مجلس النواب، فضلاً عن الأزمة الاقتصادية والاجتماعية الجامحة (النمو صفر في المئة، الدين العام 70 مليار دولار، الدين الخاص 55 مليار دولار) مما يستدعي صدمة إيجابية وعلى نحو عاجل، والا نحن في اتجاه أزمة متصاعدة (..) علماً أن معالجة انخفاض النمو وتفاقم الدين العام، فضلاً عن معالجة أزمة النازحين السوريين على الأراضي اللبنانية (..) كل هذه الأمور لا تثمر معالجتها على النحو المطلوب إلا عبر انتخاب رئيس جديد للجمهورية اللبنانية وبأسرع وقت وإعادة بناء لكل مؤسسات الدولة وذلك بعد فراغ في سدة الرئاسة كلف لبنان واللبنانيين خسائر اقتصادية واجتماعية فادحة وفتح الباب واسعاً أمام شتى الأخطار”.([3]).

وقد حدد مكحل الانعكاسات الناتجة عن الشغور الرئاسي على الوضع الاقتصادي، فرأى أن الشغور المستمر منذ عامين ونيف “يؤثر على صدقيتنا الدولية والإقليمية، فيما المستثمرون يهربون من بلدنا نحو البلدان الأكثر استقراراً، في ظل تأثر لبنان بأربعة حروب إقليمية تدور رحاها في سوريا وليبيا واليمن والعراق، فضلاً عن حرب باردة بين إيران والسعودية”([4]).

رئيس المجلس الاقتصادي والاجتماعي “روجيه نسناس” اعتبر “أن العام 2016 لم يكن سهلاً على الاقتصاد الوطني، ولا يمكن أن يكون هناك أي تغيير إيجابي ما لم يتم انتخاب رئيس للجمهورية ليبعث الأمل في قلوب المواطنين وينمي التوقعات الايجابية لدى المستثمر ورجل الأعمال”.([5]).

في النقاشات المتصلة بتأثير الشغور الرئاسي على الأوضاع الاقتصادية، ظهر ميل لدى البعض إلى القول بأن “دستور الطائف” قد قلص من دور الرئيس في رسم السياسات الاقتصادية وتقديم حلول إنقاذية. ولكن الواقع يشي بغير ذلك، فهناك آثار معنوية لغياب الرئيس، منها الإحساس الدائم بعدم انتظام المؤسسات والحياة السياسية في البلاد، وهو ما يؤثر على الاستقرار وحركة المستثمرين، كما بينته التصريحات أعلاه لاقتصاديين لبنانيين بارزين. فضلاً عن ذلك فـ “الأحداث التي شهدها لبنان (..) والتعطيل الحكومي الناتج عن الخلافات على توزيع صلاحيات رئيس الجمهورية، أظهرت إلى العلن الدور التشغيلي والمؤثر والأساسي لرئيس الجمهورية على عمل الحكومة اللبنانية”.([6])

يرى د “جاسم عجاقة” “أنّ الدور الاقتصادي الأول الذي يُمكن لرئيس الجمهورية تأديته في ظل دستور الطائف هو دور المؤثر والمفاوض والمُسهّل للسياسات الاقتصادية. فرئيس الجمهورية الذي يتمتّع بشخصية دبلوماسية وبكاريزما تسمح له بالتعاطي مع كل الأفرقاء بغضّ النظر عن الإنقسامات السياسية، يُمكنه فرض سياسة إقتصادية توافقية على كافة الأطراف، خصوصاً إذا كانت طروحاته مُميزة (outstanding) أضف إلى ذلك، فإنّ العلاقات الدولية الشخصية لرئيس الجمهورية مع الدول الإقليمية والغربية، تسمح له بإعطاء دفع كبير للعلاقات الاقتصادية، وخصوصاً على صعيد الاستثمارات التي هي أكثر ما يحتاجه لبنان”.([7]) واعتبر “عجاقة”  ” أن لبنان بحاجة إلى رئيس له علاقات مُميزة مع الولايات المُتحدة الأميركية ومع روسيا أكبر الأسواق الاستهلاكية في العالم، وعلاقات ودية مع أوروبا لِما لها من تأثير إيجابي على التطور الاجتماعي والاقتصادي في لبنان، وعلاقات أخوية مع الدول الخليجية لإعادة استثماراتها إلى لبنان وعودة السيّاح الخليجيين إلى بلدهم الثاني لبنان، وعلاقات وطيدة مع إيران المارد الاقتصادي الواعد، وعلاقات حسن جوار مع سوريا وتركيا وزيادة التعاون التجاري معهما”.([8])

في هذا المناخ بدا أن انتخاب رئيس للجمهورية من شأنه أن يحدث صدمة إيجابية يحتاجها الوضع الاقتصادي في لبنان بقوة، ومع الوعي بوجود مشكلات متشعبة تؤثر على الاقتصاد اللبناني، فإن الأمال ظلت قوية بالثأثير الكبير لإنهاء الشغور الرئاسي على تلك الأوضاع مجتمعة.

تأثيرات انتخاب الرئيس والصدمة الإيجابية:

مع إعلان التوافق على انتخاب العماد “ميشال عون” رئيساً للجمهورية، سادت موجة من التفاؤل لدى كافة الأوساط اللبنانية. لم يكن هذا التفاؤل محصوراً في الجانب الاقتصادي وحسب. بل شمل كل أوجه الحياة في البلد الذي عانى طويلاً من انعكاسات الشغور، وغياب الانتظام في عمل المؤسسات.

أظهر الرئيس المنتخب اهتماماً بارزاً بالبعد الاقتصادي في خطاب القسم، منطلقاً من تشخيص الواقع القائم في البلاد على صعد مختلفة، وعارضاً رؤيته للتعامل معها، حيث قال إن : “الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية والمالية والإنمائية والصحية والبيئية والتربوية تمر بأزمات متلاحقة، لا بل متواصلة، لأسباب عدة خارجية وداخلية. واذا كانت الأسباب الخارجية عاصيةً علينا ولا نستطيع سوى الحدّ من أثارها، فإن الداخلية منها تفرض علينا نهجاً تغييرياً لمعالجتها، يبدأ بإصلاحٍ اقتصادي يقوم على التخطيط والتنسيق بين الوزارات، والتأليل في مختلف إدارات الدولة. إذ لا يمكن أن نستمر من دون خطة اقتصادية شاملة مبنية على خطط قطاعية؛ فالدولة من دون تخطيط لا يستقيم بناؤها، والدولة من دون مجتمع مدني لا يمكن بناؤها”([9]). وقد حدد الرئيس المنتخب ما بدا رؤية اقتصادية تقوم على جملة عناصر، منها الطبيعي ومنها البشري، ومنها ما يتصل بالإصلاح الإداري، ومواجهة الفساد، فقال: ” إن استثمار الموارد الطبيعية في مشاريعَ منتجة يؤسس لتكبير حجم اقتصاد حر قائم على المبادرة الفردية وعلى إشراك القطاع الخاص مع القطاع العام، وذلك من ضمن رؤية مالية هادفة ومتطورة. كما أن الاستثمار في الموارد البشرية، وبشكل خاص في قطاع التربية والتعليم والمعرفة، يسهم في بناء أجيال يعول عليها لضمانة مستقبل لبنان الذي نطمح جميعاً إليه. حيث أن غنى لبنان الأساسي هو في إنسانه المنتشر في كل بقاع العالم، هذا الإنسان الذي ندين له باستمرارية رسالة لبنان ونشرها، كما في إنسانه المقيم الذي من حقه أن يعيش في بيئة سياسية سليمة وفي بيئة طبيعية نظيفة. أما اللامركزية الادارية، بما تجمع من مرونة ودينامية في تأمين حاجات الناس وخدماتهم، مع حفاظها على الخصوصية ضمن صيغة العيش الواحد، فيجب أن تكون محوراً أساسياً، ليس فقط تطبيقاً لوثيقة الوفاق الوطني أو انسجاماً مع طبيعة لبنان، بل أيضاً تماشياً مع تطور نظم الحكم في العالم. إن هذا الإصلاح الاجتماعي – الاقتصادي، لا يمكن له أن ينجح إلا بإرساء نظام الشفافية عبر إقرار منظومة القوانين التي تساعد على الوقاية من الفساد وتعيين هيئة لمكافحته، وتفعيل أجهزة الرقابة وتمكينها من القيام بكامل أدوارها.” ([10]).

لاقى الخطاب ترحيباً من الأوساط الاقتصادية، ورفع منسوب التفاؤل بإحداث نقلات هامة على عدة مستويات ومنها الاقتصادي بالطبع. وقد ظهر ذلك جلياً في التصريحات والمواقف التي أطلقها اقتصاديون ورجال أعمال، وخبراء في الاقتصاد أيضاً.  فقد اعتبر “رئيس الجمعية اللبنانية لتراخيص الامتياز” (فرانشايز) “شارل عربيد” ان خطاب القسَم «جاء ليغطي نقاطاً كثيرة من المطالب الاقتصادية التي طالما نادينا بها منذ وقت طويل، إذ تطرق إلى اللامركزية الإدارية، والشراكة بين القطاعين العام والخاص، وهما موضوعان أساسيان يتوجب العمل بجدية لتحقيقهما. كذلك تضمّن جانباً اقتصادياً – اجتماعياً – معيشياً مهماً يُبنى عليه”([11])

ورأت الهيئات الاقتصادية ” ضرورة الاستفادة من الأجواء الإيجابية الناتجة عن إنجاز الاستحقاق (الرئاسي) من خلال الإسراع فوراً بالتكليف والتأليف (للحكومة). وتوقعت أن ينقلب الهبوط في المؤشرات الاقتصادية وأعمال القطاعات إلى تسجيل أرقام إيجابية وتحسن في مؤشر الأعمال وثقة المستهلك.([12]).

وشدد “نقولا شماس” رئيس جمعية تجار بيروت على أنه «بانتخاب الرئيس سنرى أن المؤشرات ستتغير في الفصل الرابع الذي يعتبر الأهم اقتصادياً«. وقال «سنرى ذلك في قطاعات التجارة والسياحة والعقارات، لأنهم يتأثرون بالأجواء النفسية، أما القطاعات الأخرى فستأخذ بعض الوقت لأنها تتطلب عملاً بنيوياً وأجواء نفسية ايجابية».([13]).

واقع الحال أن هذه التصريحات الإيجابية جاءت مستندة أيضاً إلى بعض المؤشرات الاقتصادية «الإيجابية الأولى للانفراج السياسي على خط ملء الفراغ الرئاسي، (والتي ) ظهرت في ارتفاع حجم التداول في بورصة بيروت، وتحسّن سعر سهم سوليدير بما يفوق الـ30 في المئة، كذلك في ارتياح سوق القطع وفي أجواء المستثمرين ورجال الأعمال وأصحاب المؤسسات الاقتصادية”([14])
بعد أيام من انتخابه التقى الرئيس عون وفداً من الهيئات الاقتصادية. وفي التصريحات والمواقف المنشورة حول ما جرى في اللقاء والنتائج المتوقعة منه، كان بالإمكان ملاحظة أن الجميع متفق على حجم الصعوبات من ناحية وعلى أهمية العمل الجاد والدؤوب من ناحية ثانية، لمواجهة المشكلات الاقتصادية الصعبة. فقد اعتبر رئيس الجمهورية أن ما ورد حول الأبعاد الاقتصادية في خطاب القسم، يمثل التخطيط الشامل للاقتصاد ومجمل المخططات القطاعية، “ولكن بما أننا في نظام اقتصادي حر، فالعمل يقع على عاتق الجميع، على أساس التضامن”.
وأنه “لا يجوز أن تبقى الليرة اللبنانية مدعومة بالدين الذي بلغ حجماً كبيراً، وتحسين وضعها يتم بالانتاج، فالاقتصاد هو الداعم الاول للعملة اللبنانية”. وأشار الى أن الاتصالات التي تلقاها من رؤساء الدول العربية والاجنبية تؤكد الثقة بلبنان وبمستقبل أفضل له.

ومن جانبه رحب رئيس وفد الهيئات الاقتصادية عدنان القصار بما جاء في خطاب القسم، وعبر عن أمله “أن يكون عنوان العهد الجديد العمل والانتاج لتعويض ما خسره لبنان على مدى السنوات الماضية”.([15]).

كذلك جاءت الجولة الخارجية الأولى لرئيس الجمهورية، والتي شملت دولاً عربية نفطية كانت تعتبر على نحو دائم من الدول الداعمة للبنان اقتصادياً، لترفع من حجم التفاؤل. فهذه الدول ومنها المملكة العربية السعودية وقطر والكويت، كانت منعت رعاياها من زيارة لبنان، ما ترك أثراً سلبياً على القطاع السياحي. كما أن بعضها اتخذت إجراءات بحق عاملين لبنانيين فيها، وهو ما أثر على تحويلات اللبنانيين من الخارج. وفي تلك الجولة سمع الرئيس اللبناني كلاماً إيجابياً، وتلقى وعوداً بالدعم والمساندة. الأمر الذي خلف أثراً معنوياً إيجابياً أيضاً في الداخل اللبناني.

وعملياً فقد جرى تشكيل حكومة العهد الأولى برئاسة “سعد الحريري”. ورغم أن التأليف أخذ بعض الوقت، ولكنه تم على النحو الذي كانت الأوساط الاقتصادية تتوقع منه صدمة إيجابية ثانية. ما “يعطي اندفاعة قوية للعهد لاسيما على المستوى الاقتصادي وإعادة العلاقات مع دول الخليج إلى سابق عهدها، خصوصاً ان هذه الدول تشكل رافعة اقتصادية (للبنان)» كما رأت تلك الأوساط أن تشكيل الحكومة برئاسة الحريري سيشكل« انطلاقة اقتصادية قوية وعودة البلد إلى مسار النهوض والازدهار والمؤشرات الاقتصادية الإيجابية لا سيما تسجيل مستويات نمو مرتفعة”.([16]).

مقابل كل هذه الموجة الإيجابية والمتفائلة بالأثر الذي سيحدثه إنهاء الفراغ الرئاسي على الوضع الاقتصادي في لبنان، وما رافق انتخاب الرئيس من آثار إيجابية وتوقعات كثيرة أيضاً لم تغب بعض التساؤلات، وكذلك التقديرات التي ظلت ترى أن الوضع الاقتصادي في البلاد أكثر تعقيداً من أن ينهيه انتخاب الرئيس.

“فمنذ عام 2011، اجتمعت عوامل مختلفة لتعطي الاقتصاد المشهد الموجود حاليّاً، ولا يبدو فعلاً أن انتخاب رئيس سيكون له- وحده- القدرة على عكس المشهد بهذه الطريقة. فمشكلة التصدير البرّي عبر الحدود مع سوريا مستمرّة، مع رئيس ومن دونه، وهي المشكلة التي ترمي بثقلها على القطاعين الاقتصادي والزراعي. وبدائل التصدير عبر الجو لم تفلح إلّا برفع كلفة التصدير وإفقاد البضاعة اللبنانيّة قدرتها على منافسة البضائع الأخرى في الأسواق العالميّة. ولا يبدو حتى اللحظة أن هناك حلاً لواقع الجمود في السوق العقارية. وإذا كانت السوق قد تمكّنت بشق النفس من تفادي انفجار الفقاعة بشكلها الأكثر قوّة (أو لنقل ربّما بحوافز مصرف لبنان وتكاتف عدد من كبار اللاعبين في السوق)، فلا يبدو أن استمرار الحالة على هذا النحو من الجمود في الطلب والأسعار (في الوقت نفسه!) سيكون في مصلحة الاقتصاد الوطني. فلا هو سيؤدّي إلى تصحيح الأسعار، ولا إلى التخلّص من حال الركود في أعمال التنمية العقاريّة. وفي كل الحالات، فإن أياً من هذه العوامل لن يكون بيد رئيس الجمهوريّة”([17]).

الوضع الراهن:

من الصعوبة الحديث عن أجواء تفاؤلية طافحة إزاء الوضع الاقتصادي القائم اليوم حتى ليبدو وكأن حجم التفاؤل بإحداث نقلة كبيرة، والذي ساد مع إتمام انتخاب الرئيس كان ينطوي على شيء من المبالغة، ليس لأن العهد وحكومته الأولى لا يريدان القيام بالعمل، بل لأن حجم التعقيدات والصعوبات كبير جداً. والأزمات الاقتصادية لا تطاول لبنان وحده.

يلحظ تقرير عن آفاق الاستثمار في العام 2017، وجود “عوامل عدة تجعل من عام 2017 أكثر صعوبة من غيره لجهة إمكانية استشراف ما يخبئه اقتصادياً واستثمارياً على المستويين الإقليمي والعالمي نظراً إلى كثرة التطورات والأحداث التي شهدها عام 2016 والتي ستستمر ارتداداتها في التبلور تباعاً. من التصويت المفاجئ لخروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي، إلى انتخاب دونالد ترامب غير المتوقع رئيساً للولايات المتحدة الأميركية، مروراً بأزمات الشرق الأوسط المتنقلة وانعكاساتها على الأمن والاستثمارات وأسعار النفط” ([18]).

يقدم التقرير صورة متوازنة عن الوضع في لبنان فيعتبر أن انتخاب رئيس للجمهورية أتى “ليعيد التفاؤل بانتعاش اقتصادي رغم وجود معوقات سيصعب تخطيها بسرعة”. ويقول:” ساهم الانتهاء من الشغور الرئاسي في لبنان بإعادة الانتظام إلى الحياة السياسية اللبنانية ما خلق مناخات إيجابية مشجعة للاقتصاد ككل. فبحسب رئيس اتحاد المصارف العربية ورئيس مجلس إدارة بنك الكويت الدولي محمد الجراح الصباح هنالك “إمكانية في زيادة النمو العام المقبل 2017 في لبنان بنسبة تفوق 4 في المئة”. و من المفترض أن تلعب “المباركة” العربية والخليجية لانتخاب العماد عون رئيساً دوراً محورياً في إعادة وصل ما انقطع بين لبنان والعالم العربي ككل ودول الخليج خاصة، ما قد يترجم بعودة السياح العرب بأعداد كبيرة إلى لبنان، وتدفق الاستثمارات إليه من جديد ولو بشكل محدود جراء الظروف التي تمر بها دول المنطقة وتأثر أوضاع اللبنانيين في الخليج بها. لكن مع هذا يتوقع أن يستمر الدين العام في الارتفاع ليلامس حدود 80 مليار دولار، كما سيستمر العجز في إقرار الموازنة نظراً إلى عمر الحكومة المشكلة القصير والتي تتركز أولوياتها في إجراء الانتخابات النيابية المقبلة وإقرار قانون جديد للانتخابات.([19] ).

يمكن الافتراض أنه قد حل محل التفاؤل الكامل، حديث عن وجهتي نظر: فهناك وجهة نظر ما زالت ترى أن الأوضاع التي بدأت حلحلتها مع انتخاب الرئيس سوف تواصل مسارها نحو تحسن كبير في الأوضاع الاقتصادية. ومقابلها وجهة نظر أخرى ما زالت تعتبر أن الظروف القائمة في لبنان، وتلك المحيطة به، سوف تلعب كعوامل عرقلة للنهوض الاقتصادي المأمول.

فقد رأى “معهد التمويل الدولي IFC وبنك بيبلوس في تقرير مشترك أن مفاعيل انتخاب رئيس للجمهورية وتأليف الحكومة ستترجم ايجابياً في مفاصل الاقتصاد اللبناني خصوصاً اذا رافقها تحسّن في البيئة السياسية، بما يرفع التوقعات بنمو الناتج المحلي الإجمالي الحقيقي في لبنان من نسبة 1.4% في 2016 إلى 3,3% في 2017.” بالمقابل فقد “رأت وكالة “فيتش للتصنيفات الائتمانية أن المخاطر لا تزال قائمة في لبنان رغم انتخاب الرئيس وأن الاقتصاد سيظل تحت ضغط بفعل الحرب في سوريا والضعف البالغ للمالية العامة” واعتبرت “فيتش” أن الوضع الصعب للمالية العامة، إذ تبلغ نسبة الدين 140% من الناتج المحلي الإجمالي، سيحد على الأرجح من الميّزات الاقتصادية للتطورات السياسية الإيجابية، إلا أنه ورغم نظرتها غير المتفائلة اعتبرت فيتش أن انتخاب عون خطوة مهمة صوب تحسين الكفاية السياسية اذا أسفرت عن مزيد من التوافق السياسي وتشكيل حكومة وحدة قادرة على العمل.”

أما التقرير المشترك لمعهد التمويل الدولي IFC وبنك بيبلوس فهو مبني على تعزيز ثقة المستهلكين والمستثمرين نتيجة انتخاب رئيس للجمهورية. والنمو المتوقع يعود، وفق ما يقول كبير الاقتصاديين لمنطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا في معهد التمويل الدولي غربيس إيراديان، إلى تحسّن متواضع في استثمارات القطاع الخاص وصادرات السلع والخدمات، مرجحاً أن تنمو “نسبة صادرات السلع بوتيرة أسرع في حال اعادة فتح ممرات التجارة البريّة مع سوريا والعراق قبل نهاية هذه السنة”.

“وإذ توقّع المعهد أن يبقى العجز في الموازنة العامة مرتفعاً وأن يبلغ 8.6% من الناتج المحلي الإجمالي في 2016، وأن تستمرّ نسبة الدين العام في الارتفاع وأن تصل إلى 144% من الناتج المحلي هذه السنة، مقارنة بـ 138% من الناتج المحلي عام 2015” شدّد المعهد على أن خفض مستوى الدين العام سيتطلب “جهوداً مالية قوية وإصلاحات هيكليّة لخفض العجز وتوفير الظروف المؤاتية لنمو أفضل ومستدام”.[20]

من المتصور لدى بعض الاقتصاديين أن الصدمة الإيجابية قصيرة الأجل قد استنفذت مفاعيلها، وعليه يبقى التعويل على إجراءات يكون لها تأثيرها على المدى البعيد، وهي بحسب “جاد شعبان” أستاذ الإقتصاد في الجامعة الأميركيّة في بيروت والعضو المؤسس في الجمعية الإقتصاديّة اللبنانيّة، ستعتمد “على نوع السياسات التي ستطبّقها الحكومة، ومداها، سواء بتوافق أو من دونه”. فعلى سبيل المثال، إذا كان هناك “زيادات مفاجئة في الاستثمار في البنية التحتيّة، أو في خدمات أفضل (كهرباء أو هاتف…)، بالإضافة إلى مباشرة مشاريع جديدة كبرى مثل مشاريع النفط والغاز، فسيكون هناك تداعيات إيجابيّة في زيادة النمو الإقتصادي. ولكن هناك أيضاً مخاطر الخلافات وعودة الأمور إلى الركود من جديد”.[21]

ويتحدث آخرون عن أن “المطلوب (هو) تطبيق سياسات اقتصادية إصلاحية تعيد الاعتبار للدولة، وتوقف الهدر المتسارع في الخزينة. المطلوب أن يقرّر العهد الجديد أي سياسات سينتهج. إن كان إصلاحياً، فمن الضروري أن يقود رحلة إعادة بناء الاقتصاد الحقيقي، وخفض الاعتماد على اقتصاد الريع، الذي باتت الدولة وقطاعاتها الاقتصادية أسيرته!”[22]

  خاتمة:

كان الوضع العام في لبنان منذراً بمخاطر كبيرة مع استمرار الشغور الرئاسي، والذي انعكس غياباً في انتظام عمل المؤسسات. هذه المخاطر طاولت القطاع الاقتصادي. وشكل التوافق على انتخاب الرئيس ومن ثم انتخابه صدمة إيجابية فعلية. فالرئيس يتبنى برنامجاً إصلاحياً على صعد مختلفة، وعبر عن رؤيته الاقتصادية في خطاب القسم، ومن ثم في تصريحات متلاحقة ومواقف في مناسبات مختلفة. وكان لتشكيل الحكومة أثر إيجابي أيضاً فهي حكومة وحدة، ومنسجمة مع الرئيس.

ولكن أي تصور يبنى على أن إصلاح وإنهاض الوضع الاقتصادي سيتم بسحر ساحر ولمجرد انتخاب رئيس وتشكيل حكومة، هو تصور خاطئ. ثمة جهود كبيرة مطلوبة على الصعيد المحلي، تطاول وقف الفساد والهدر، واعتماد موازنة، والقيام بمشاريع كبرى مثل استثمار الغاز على الشواطئ. وثمة ظروف إقليمية ضاغطة وأزمات نزوح تحتاج إلى حلول لا تقتصر على لبنان، بل تتطلب جهوداً من دول عدة، على أنه يمكن أن يكون مساهماً بجدية فيها.

نافذ أبو حسنة

[1]– الطبش، هيثم. اقتصاد لبنان قد ينهار خلال ستة أشهر. المدن (الالكترونية) 28/8/2014 .

[2]– وردت لدى: فرح، جوزيف. الاقتصاد مستمر في النزف ولا ملامح لأي بارقة أمل. النمو إلى تراجع والدين العام 75 مليار دولار، وضغط النازحين يتعاظم. الوكالة الوطنية للإعلام. بيروت. 3/8/ 2016

[3] – وردت لدى المصدر نفسه.

[4] – وردت لدى المصدر نفسه.

[5] – وردت لدى المصدر نفسه.

[6] -عجاقة، د جاسم. كيف تؤثر شخصية رئيس الجمهورية في الاقتصاد؟ صحيفة “الجمهورية” بيروت. 4/1/2016.

[7] – نفسه.

[8] – نفسه.

[9] – نص خطاب القسم، موقع قناة المنار الإلكتروني.

[10] – نص خطاب القسم، موقع المنار الإلكتروني.

[11] –  ديب، ألفونس.تكليف الحريري تولي رئاسة الحكومة العتيدة يعطي اندفاعة قوية للعهد. الهيئات ترحب: انتخاب الرئيس محطة أساسية لقلب المسار الاقتصادي. جريدة “المستقبل” (بيروت) 1/11/2016.

[12] – نفسه.

[13] – نفسه.

[14] – وزني: الاقتصاد في 2017 سيكون أفضل من 2016، جريدة ” المستقبل” (بيروت) 24/11/2016.

[15] –  وردت التصريحات في: “لقاء عون مع وفد الهيئات الاقتصادية”. “الوكالة الوطنية للإعلام” (بيروت) 11/11/2016.

[16] – وردت لدى: ديب، ألفونس. م س ذ.

[17]– نور، علي. انتخاب الرئيس: صدمة اقتصادية إيجابية؟ المدن (الالكترونية) 28/10/2016.

[18]– آفاق الاستثمار العالمي 2017. جريدة “الأخبار” (بيروت).  www.al-akhbar.com/node/270260

[19]– نفسه.

[20] –  نظرتان متناقضتان لمستقبل لبنان الاقتصادي بعد انتخاب عون. جريدة “النهار” (بيروت) 3/11/2016.

[21]– وردت لدى:نور، علي. م س ذ.

[22] – مقلد، فراس. التحديات الاقتصادية للعهد الجديد، خطوات إصلاحية يمكن تطبيقها في مائة يوم. 27/11/2916. موقع الحزب الشيوعي اللبناني.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *