المفاوضات المباشرة.. وحكاية رجل من البنك الدولي

يشدد سلام فياض ومقربوه على أن اللقاءات المتكررة التي يقوم بها في رام الله، مع وزير الحرب الصهيوني إيهود باراك، إنما تستهدف البحث في تحسين الظروف المعيشية للفلسطينيين في الضفة الغربية. وفي العام الماضي حُكي عن لقاء هام جداً، دار حول مسائل اقتصادية هامة، لكن أحداً لم يخبر عن طبيعة تلك المسائل.
حسناً، لنقل إن هذه اللقاءات تتعلق بالحواجز التي لم يُرفع واحد منها، على مدى سنوات شهدت عشرات الاجتماعات. لكن أن يُحكى عن أن لقاء فياض الأخير مع وزير الحرب باراك، كان يتعلق بالموضوعات المعيشية، فهذا تدليس واضح، ومحاولة مكشوفة لحجب الشمس بغربال.

فياض.. إعادة تكييف الدور
عند مقاربة أي حدث سياسي، يجب درس الظروف التي قادت إلى الحدث، وتلك التي جرى في إطارها، كي يصبح ميسراً، فهم ما هو مطلوب منه، والنتائج المتوقعة له، أو المتحصلة فعلاً.
منذ قيام الحكومة الحالية في كيان الاحتلال، وتولّي أوباما مهماته الرئاسية، تصرّ الإدارة الأمريكية، على معاودة المفاوضات، بين حكومة الاحتلال، والسلطة الفلسطينية. ورافعة سقف التوقعات من الإدارة الأمريكية الجديدة، راهنت السلطة، على توفير مناخ مناسب لها، لمعاودة المفاوضات التي وصفت مراحلها السابقة بالعبثية.
تقدمت إدارة أوباما خطوة، على الطريق الذي تنشده السلطة، وتراجعت خطوات، إلى أن أُبرم تفاهم يقضي بالعودة إلى مفاوضات غير مباشرة، يتولى قيادتها المبعوث الأمريكي جورج ميتشيل. وحظي التفاهم بتغطية عربية اشترطت أمداً محدوداً لهذه المفاوضات التي بدأت بالفعل، دون أن تخطو متراً واحداً إلى الأمام، أقلّه بحسب المفاوضين الفلسطينيين. وقد تحدث بعض هؤلاء عن «مناورة إسرائيلية، لكسب الوقت».
من الناحية العملية، كانت هناك مجموعة من النقاط الواجب الالتزام بها من الصهاينة، لتتواصل هذه المفاوضات، وما حدث هو العكس. فعلى جاري العادة، استثمرت الحكومة الصهيونية وجود حركة تفاوضية، للمضي قدماً في إنفاذ مخططات معدة سلفاً، والتصعيد في تطبيقها، مثل إبعاد النواب المقدسيين، والإمعان في تهويد القدس، وتشديد الحصار فعلياً على غزة، وشنّ حملات اعتقال كبيرة في الضفة، والتضييق المتزايد على الفلسطينيين في الأراضي المحتلة عام 1948، إلى آخر ما هو قائم ومعروف من الإجراءات والممارسات الصهيونية اليومية.
في هذه الأجواء ظهر بعض التململ في أوساط السلطة الفلسطينية، وعبّر مقربون من ملف التفاوض عن اليأس من إمكان تحقيق أي تقدم، معاودين الإشارة إلى لعبة تقطيع الوقت الصهيونية، دون أي ضغط أمريكي جدي، وتشجع بعضهم على القول: إن الضغط الفعلي يُمارَس على الفلسطينيين.
لم يكد صدى هذه الأصوات يغادر الغرف المغلقة والجلسات الخاصة، حتى حدث التسارع الذي يريده الصهاينة؛ فقد خرج متحدثون أمريكيون، ليبلغوا وسائل الإعلام بأن «المفاوضات غير المباشرة، حققت تقدماً كبيراً، وعلى غير صعيد». وقبل أن يستفيق بعض الفلسطينيين المفاوضين من الدهشة، جاء الطلب الأمريكي المحدد بالانتقال إلى المفاوضات المباشرة، وبالبناء على التقدم الذي حققته المفاوضات غير المباشرة، وفق الرؤية الأمريكية.
تالياً لذلك، حدث تطوران هامان، الأول تمثل في استقبال نتنياهو بحفاوة مبالغ فيها، في البيت الأبيض، مع إطلاق تصريحات أمريكية، تحمل نبرة مستأنفة لخطابات بوش الابن، في ما يتصل بالعلاقة بين الجانبين، وتعاود المطالبة بالذهاب إلى المفاوضات المباشرة فوراً، مشفوعة بتحديد لأطر التفاوض وأهدافه، تولى وضعها وتحديدها نتنياهو بالذات، بعد وقت قصير على اللقاء بالرئيس الأمريكي، وفيها إعادة تشديد على المواقف الصهيونية المعروفة بشأن القدس والاستيطان واللاجئين والدولة. وفي مقابل ذلك، تحدث أوباما علناً عن أن بقاء فياض وعباس في السلطة مرهون بمدى تقدمهما في عملية السلام، وذلك في رسالة علنية غير مسبوقة، من رئيس التغيير الأمريكي.
وتجسد الثاني في اللقاء الذي عقد بين سلام فياض، ووزير حرب الاحتلال، إيهود باراك. وعلى نحو بدا معه اللقاء، نوعاً من الاستجابة الفورية للطلب الأمريكي. وعندما حاول رئيس السلطة ومقربوه القول بأن لقاء فياض – باراك، ليس لقاءً تفاوضياً، بل هو كالعادة يتصل بشؤون الحياة اليومية، خرج فياض ليقول: هذا تفاوض كامل، وجرى بحث كل شيء.
التعارض العلني في توصيف طبيعة اللقاء بين رئيس السلطة، ورئيس حكومته، أعاد إلى الساحة السياسية، تساؤلات لم تغب تماماً في الواقع، عن الدور الحقيقي للسيد فياض، وعن تلك العلاقة الخاصة التي تربطه بباراك.
ومفيد ربما في فهم الرابط بين كل هذه التطورات، التوضيح أن باراك الذي زار واشنطن، غير مرة، عندما حُكي عن توتر بين أوباما ونتنياهو، هو من أكثر المسؤولين الصهاينة حماسة لاستئناف المفاوضات المباشرة، وهو تحدث علناً، منتقداً بعض الإجراءات والتصريحات التي وصفها بالاستعراضية، وتعوق التقدم نحو مفاوضات سياسية مباشرة.
وأكثر من ذلك، فإن من يتحدثون عن «مفهوم السلام الاقتصادي» وينسبونه إلى نتنياهو، ينسون أن باراك يتبنى فكرة تحقيق «ازدهار في المناطق، وتقديم تسهيلات حياتية، تبعد الفلسطينيين عن العنف» مع إجراءات كتلك التي يقوم بها فياض في الضفة.
بهذا المعنى يتلاقى كل من فياض وباراك، عند نقاط تقاطع هامة، في رؤية مستقبل الضفة، والوضع الفلسطيني عموماً. وإذا أردنا تجاوز التدليس والأكاذيب، عما يدور في اللقاءات المتكررة بينهما، وخصوصاً اللقاء الأخير، يصير ممكناً الحديث عن إعادة تكييف لدور فياض، يتناسب مع المرحلة القادمة التي ستشهد تغيير بعض أدوات الجر. لكن لماذا؟ وكيف؟

لماذا المفاوضات المباشرة؟
الإجابة عن السؤالين السابقين، تقتضي أولاً الإجابة عن سؤال يتعلق بالإصرار الأمريكي على المفاوضات المباشرة؟ يعرف الأمريكيون قبل غيرهم، وأكثر من غيرهم، أن المفاوضات غير المباشرة، لم تحقق أي تقدم صغيراً كان أو كبيراً، ويعرفون أيضاً أن حكومة نتنياهو لا تريد التفاوض أصلاً، ولديها أولويات مختلفة، وبالتالي فإنها حتى في المفاوضات المباشرة، لن تقدم أكثر من فن تضييع الوقت، مع إجراءات شكلية توحي بأن العملية تتقدم. ومع كل ذلك تصر إدارة أوباما على الذهاب نحو مفاوضات مباشرة، وبالشروط الصهيونية، كي تضمن موافقة نتنياهو على الخطوة، وذلك لأسباب أمريكية محضة. تتصل بالملف النووي الإيراني، وبمحاولة خلق بيئة استراتيجية ملائمة للخيارات الأمريكية تجاه إيران، وبالملفات الأفغانية والعراقية والباكستانية، أكثر بكثير مما تتصل بالحديث التافه عن الرؤى الأمريكية «لقيام دولة فلسطينية، تعيش بسلام إلى جانب دولة إسرائيل».
ثم إن الرئيس الأمريكي يواجه استحقاق انتخابات التجديد النصفي للكونغرس، ويبحث عن إنجاز ما يقدمه، في محاولة للحفاظ على الأغلبية الديموقراطية المهددة، وهو على معرفة أكيدة بدور اللوبي الصهيوني، في هذه الانتخابات. وإلى ذلك يعيد البعض الاستقبال الحافل لنتنياهو، والحديث عن صفقة سلاح لدولة الاحتلال، هي الأكبر في تاريخ العلاقة الأمريكية الصهيونية.
وتتحدث أوساط دبلوماسية وإعلامية عن أن إدارة أوباما، نجحت في تكييف نتنياهو مع فكرة استئناف المفاوضات المباشرة، ضمن شروط يحددها، في خدمة الغايات المشتركة للجانبين، وخصوصاً في الموضوع الإيراني، وذلك مع حصول الإدارة الأمريكية على وعود عربية، بتغطية ملف المفاوضات المباشرة، على نحو ما حدث مع المفاوضات غير المباشرة.
في أوساط السلطة الفلسطينية، ثمة إدراك عميق وعام، بأن الوظيفة الأساسية لهذه السلطة، هي القيام بالتفاوض. وعندما وقفت هذه الأوساط أمام تصريحات أوباما عن إمكان تغيير عباس وفياض، في حال عدم العمل في المفاوضات، مهما كان نوعها وتسميتها، فهمت أن المراد هو تذكير السلطة بالدور الذي قامت من أجله.

لكن في السلطة أيضاً، جدال حول جدوى الاستمرار في لعبة عبثية مكشوفة. لقد اعتقد بعض هؤلاء بحق، أنهم يستطيعون من خلال التفاوض الحصول على دولة فلسطينية ما. لكن السنوات الماضية من عمر التفاوض المستمر أكلت كل الأوهام التي بنيت على خيار المفاوضات من حيث المبدأ. لم تعد العناوين المثيرة عن التغيير الاستراتيجي والتحول التاريخي، المحمولة على عربة أوسلو، قادرة على إقناع أحد، بمن فيهم بعض ممن تولوا صياغتها.

إذاً يجادل البعض بالجدوى، وقد دار همس، أصبح كلاماً علنياً بعد وقت قصير، عن خيار اللجوء إلى إعلان حل السلطة، ووضع العالم أمام مسؤولياته في مواجهة الاحتلال. لكن الخيار الذي جرى الحديث عنه تكراراً، والذي يعتقد كثيرون بصوابيته، واعتباره مخرجاً ملائماً من حالة الانسداد القائمة، اصطدم بشبكة المصالح المؤسسة على وجود السلطة، والعلاقة مع الاحتلال.

هذه الشبكة تملك تأثيراً كبيراً، وثمة من يقول: إنها المتحكم الفعلي بالخيارات التي يجري سلوكها، وإن لها خيارها السياسي الذي يعبّر عنه بوضوح سلام فياض ومعاونوه.

يقوم هذا الخيار على التفاوض وحسب، ويتميز عن خيار المفاوضات المعروف تاريخياً في الساحة الفلسطينية، بالقدرة على التكيف مع أي معطى تقدمه المفاوضات، وفق اعتبارات الأمن الصهيوني، والرؤية الصهيونية للمستقبل الفلسطيني.

يصف أصحاب هذا الخيار أنفسهم، بأنهم «بلا أوهام». والأوهام هنا ليست الحقوق الثابتة للشعب الفلسطيني، بل عناصر ما يوصف بالبرنامج الوطني الفلسطيني، عن الدولة، وعاصمتها القدس، وعودة اللاجئين. وبالتالي، فهم يعتمدون، على طريقة وصفات البنك الدولي، تطبيق خيارات سياسية خطرة جداً، تحت مسمى توفير ظروف عيش معقول ومريح، للفلسطينيين، من دون أي تطلعات وطنية صغيرة أو كبيرة.

في الواقع العملي، هذه سياسات مطبقة في الضفة. وتجري محاولات محمومة لخلق الفلسطيني الجديد، لكن الواقع يقول أيضاً: إن النجاح في هذه السياسات على نحو كامل يتطلب قطعاً كاملاً وشاملاً، مع المؤسسات الفلسطينية القائمة، بداية من منظمة التحرير، إلى الفصائل الفلسطينية بكل مسمياتها وعناوينها. والعمل في هذا الاتجاه، جار بالفعل، ومن يتابع بدقة يلحظ التوترات التي تطفو إلى السطح بين الفينة والأخرى، بين فياض من جهة، ومنظمة التحرير وحركة فتح، من جهة أخرى. وإذ تبدو بعض هذه التوترات مرتبطة بتقاسم مغانم السلطة المحدودة، وتظهر أحياناً، كمعركة نفوذ وأدوار بين ممثل البنك الدولي، والمنظمة وفتح، فإن كثيرين يتحدثون سراً وعلناً، عن أن المنظمة والحركة معاً، يواجهان عملية إلغاء مبرمجة يقودها سلام فياض.

وفق هذه المعطيات، يبدو فياض هو الشخص الأكثر ملائمة للمرحلة المطلوبة أمريكياً وصهيونياً، وهو باجتماعه وباراك، خطا الخطوة المطلوبة منه بدقة. وعليه فإن السؤال الآن لا يدور حول ما إذا كان سيتم الذهاب إلى المفاوضات المباشرة، أم لا؟ فمثل هذا السؤال توفر التجربة إجابة واضحة عليه. لكن كيف ستجري هذه المفاوضات، وبأية أدوات؟ وما هي النتائج المترتبة عليها؟

ثمة إجماع بين خبراء الاقتصاد المرموقين في العالم على نتائج كارثية سببتها تطبيقات البنك الدولي وصفاته، في الدول الفقيرة والنامية، وعلى أنها لم تهدد الاقتصاد فحسب، بل دمرت البنى التي يمكن التأسيس عليها، وهددت المجتمعات ودمرت كثيراً منها.

في فلسطين اليوم، موظفٌ أمينٌ لسياسات البنك الدولي، وهو ليس مكلفاً إصلاح الاقتصاد أو إعادة هيكلته، إذ لا اقتصاد يمكن الحديث عنه بسبب سياسات الاحتلال. بل هو مكلف إعادة هيكلة الوضع الفلسطيني. فإلى أين يمكن أن يمضي السيد فياض؟

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *