الإعلام المحلي والإعلام الدولي ودورهما في التاثير على الرأي العام

مقدمة

توجد صلة وثيقة طبيعية ومفهومة بين كل من الرأي العام والإعلام. فقبل تشكل المفاهيم الدالة على كليهما، كان الشعراء والدعاة والوعاظ والحكام والخطباء يقومون بدور وسائل الإعلام للتأثير في أراء الناس وتوجهاتهم. ومع ظهور وسائل الإعلام صارت المهمة أكثر يسراً بالتدريج، بحيث وقع تناسب طردي بين تطور الوسائل الإعلامية وسهولة وصولها إلى الناس، وبين القدرة على استخدام هذه الوسائل في صناعة الرأي العام وتوجيهه. وقد هيمنت الحكومات والقوى النافذة في المجتمعات بداية على وسائل الإعلام بحيث يتاح لها التحكم في ضخ المعلومات والأخبار التي تشكل الرأي العام على نحو يخدم توجهاتها، واستقرار هيمنتها على الناس. غير أن ثورة الاتصالات أضعفت تلك الهيمنة. ولم يعد في طاقة الحكومات حجب التدفق الإعلامي الهائل، والذي جعل المعلومات متاحة، ومصادرها متعددة. فالبث الفضائي لا يعرف حدوداً وموجات الانترنت قادرة على اختراق الجدران بكل أنواعها. وهكذا من الشح والندرة إلى التدفق اللامحدود باتت وسائل الإعلام في تسابق محموم على عقل المتلقي، والذي ربما يتلقى كثيراً من المعلومات عن بلده من وسائل إعلام خارج البلد. وربما بإمكانه المفاضلة بين وسائل إعلام محلية متعددة، مع انتهاء زمن الاحتكار الإعلامي، بناء على تجربته الشخصية، أو بناء على الانطباعات المتشكلة عن هذه الوسيلة أوتلك.

هنا لا يدور الحديث عن حقائق أو أكاذيب، أو عن معرفة أو تجهيل. وإذا كان التسابق على التأثير في الرأي العام، يفرض مع البحث ضرورة التطرق إلى تلك الموضوعات، فإن ما تقدم هو مجرد توصيف لحال قائم من التنافس بين الوسائل الإعلامية المختلفة، سواء تلك التي لها طابع محلي، أم تلك المتخطية للحدود وهي بالطبع تملك إمكانات كثيرة للتأثير.

في هذه الورقة سوف نناقش مفهوم الرأي العام وخصائصه. ودور الدولة والتطورات التي لحقت به، مع ملاحظة أن ملكية وسائل الإعلام لم تعد حكراً على الدول، ولم تكن كذلك أصلاً في دول عديدة، ثم نتطرق إلى الحق في الوصول إلى المعلومات، ونتحدث عن الهيمنة الإعلامية ودورها في حجب وإيصال المعلومات، وإعادة إنتاجها بما يناسب توجهات محددة  ما يطرح تساؤلات جادة حول حقوق الإنسان والديمقراطية ، ونختتم بخلاصة.

الرأي العام، تعريف:

وفق موسوعة السياسة فإن الرأي العام ” هو اتجاه أغلبية الناس في مجتمع ما اتجاهاً موحداً إزاء القضايا التي تؤثر في المجتمع أو تهمه أو تعرض عليه. ومن شأن الرأي العام إذا ما عبر عن نفسه أن يناصر أو يخذل قضية ما أو اقتراحاً معيناً. وكثيراً ما يكون قوة موجهة للسلطات الحاكمة.”

و”تعرف الموسوعة الفلسفية الرأي العام بأنه: مجموع معين من الأفكار والمفاهيم التي تعبر عن مواقف مجموعة أو عدة مجموعات اجتماعية إزاء أحداث أو ظواهر من الحياة الاجتماعية إزاء نشاط الطبقات والأفراد. (..) ويعرفه معجم مصطلحات العلوم الاجتماعية بأنه: وجهات النظر والشعور السائد بين جمهور معين في وقت معين إزاء موقف أو مشكلة من المشكلات”

ثمة تعريفات أخرى للرأي العام تدور في ذات الإطار، وتبين تميزه عن الرأي الخاص، بكونه يمثل توجه جماعة من الناس، صغيرة أم كبيرة. وتعدد التعريفات إنما يعكس وجهات النظر المتعددة في تعيين الرأي العام ومحاولات وصفه وصفاً علمياً دقيقاً. ذلك أن التعبير حديث نسبياً، ولكن ما يدل عليه التعبير موجود منذ أمد بعيد، وربما يمكن القول بأنه كان موجوداً مع وجود الاجتماع البشري، وبدء تشكل الرؤى والمواقف تجاه الظواهر والأحداث.

الرأي العام، تطور حضور المفهوم:

من الطبيعي مع إدراك وجود الرأي العام، وهو سلوك طبيعي للاجتماع البشري، أن تكون هناك محاولات للتأثير فيه وعليه، كما أن وجوده قد يفرض على الحاكمين أو أصحاب السلطة والنفوذ توجهات معينة من أجل ديمومة السلطة أو حفظ الاستقرار الاجتماعي.

وقد حظيت هذه الظاهرة الإنسانية الطبيعية باهتمام وافر من قبل المفكرين والباحثين، والذين رصدوا تطورها ونمو معدلات تأثيرها، ربطاً بتطور المشاركة السياسية للجمهور، أو بما يمكن وصفه بالتطور الديمقراطي. فالرأي العام كما سلفت الإشارة ” ظاهرة تاريخية أخذت صورتها الحالية (عبر مسار) تاريخي متدرج فمن رأي السواد، الإرادة العامة، الاتفاق العام، صوت الشعب، رأي الأحرار.. (وذلك) تبعاً لمستوى تطور وثقافة وموروث المجتمع في فترة زمنية محددة من تطوره”.

ووفق ملاحظات سجلتها “انعام محمد سلطان”، فقد كان حكام “سومر” و”بابل” و”آشور” يقيمون وزناً للرأي العام. وكذا كان الحال في مصر الفرعونية التي أدرك  حكامها أهمية الرأي العام. وكانت المدن اليونانية القديمة أول من أعطى الرأي العام مجالاً واسعاً لتنظيم شؤون المجتمع. وتحدث “الرومان” عن الآراء الشائعة، وصولاً إلى مفهوم صوت الشعب، وصوت الجمهور. كما أكدت الحضارة الإسلامية على أهمية المشاركة وفق نظام الشورى، وأعطت للرأي العام سلطات كبيرة. وتطور الأمر مع كتابات ميكيافلي في القرن الخامس عشر الميلادي، ثم كتابات من تبعوه والذين اعتبروا أن الرأي العام هو عنصر يجب أن يؤخذ بالحسبان في عملية الصراع من أجل السلطة.

و” كانت هناك العديد من الكتابات والمقالات والدراسات في مجال الرأي العام من قبل مفكرين ينتمون إلى بلدان وقوميات مختلفة أمثال: جان جاك روسو (1712- 1778)، جون ستيورات ميل، جيرمي تبتام، وجورج كونويل. وقد كان أول استخدام لمصطلح الرأي العام في القرن الثامن عشر أثناء الثورة الفرنسية على لسان وزير المالية الفرنسي جاك نيكبير في عهد لويس السادس عشر. وصدر أول كتاب متخصص في الرأي العام في عام 1840 للكاتب كورنويل لديس تحت عنوان: وجهة نظر حول تأثير السلطة في قضايا الرأي العام. وفي عام 1946 صدر أهم كتاب وهو كتاب كارل فون جيرزدروف الذي يحمل عنوان: فكرة وطبيعة الرأي العام”.

حقيقة الأمر أن القفزة الهائلة لتأثير الرأي العام عامة في السياسات  ارتبطت بثورة الاتصالات والانتشار الكبير لوسائل الإعلام، وأصبح هناك نوع من التلازم، أو لعله التناسب الطردي، بين القوة التي تملكها وسائل الإعلام، وبين نمو قدرة الرأي العام على التأثير. وهو ما سيجري التفصيل فيه لاحقاً. وذلك بعد التوقف عند خصائص الرأي العام وفق ما خلصت إليه الأبحاث الكثيرة في دراسة الظاهرة.

الرأي العام، خصائص:

يمكن ملاحظة جملة من الخصائص للرأي العام تبدو محل توافق عدد كبير من الباحثين. ولعل التوافق على عدم الثبات هو القاسم المشترك الأكبر بين المشتغلين على تحديد خصائص الرأي العام. فوفق موسوعة السياسة فإن الرأي العام” ليس ظاهرة ثابتة بالضرورة وقد يتغير إزاء مسألة ما من حين إلى حين”.. أي أنه ” لا يتسم بالجمود والثبات، بل متغير حسب متطلبات الحراك الاجتماعي وتبدلاته سواء في مجال السياسة، أو تغير المزاجات والأذواق في قبول أو تجديد أو رفض السلع والموديلات وتجديدها بما فيها الأزياء، والمدارس الفنية والفلسفية السائدة، وما إليه”

كما “أن الرأي العام عمل من أعمال الإرادة، وعلى هذا الأساس فإن الموقف إزاء الكوارث الطبيعية لا يمكن أن يسمى رأياً. (و) يتميز الرأي بارتباطه بالوعي. إن الرأي يوجد عندما تطرح أمام الشخص أو أمام أعضاء الجماعة قضايا تتجاوز بتاثيرها نطاق العواطف، لتدخل نطاق الوعي وهذا التجاوز هو الذي يتيح فرصة ضمان ثبات الرأي ووضوحه. فالرأي أكثر من مجرد انطباع، وبنفس الوقت لا يصل إلى مرحلة اليقين أو الحقيقة الشاملة”.

ينبغي أن نشير هنا وقبل استكمال عرض خصائص الرأي العام إلى أن الانطباعات ذات الطابع العاطفي لها تأثيرها الذي لا يمكن إنكاره. من الممكن التمييز بين قوة الرأي الناشىء عن الوعي، والإدراك الكبير للوقائع ومعناها، لكننا لا نستطيع إلغاء التأثيرات التي تستند إلى خطاب الشحن العاطفي لدى جماعات كثيرة.

” من خصائص الرأي العام كونه رأي الجماعة وليس رأي الفرد أو الجمهور الذي هو اصطلاح يقصد به فئة أو جماعة من الناس تتميز عن غيرها بخصائص أو صفات خاصة، وتجمع أفرادها صفات مشتركة أو روابط معينة. (وهو) ظاهرة تاريخية (…)  ومن ميزاته أنه ذو طبيعة تحتمل النظر والتفكير والاجتهاد والجدل، كما أنه متنوع وذو أشكال وطرق تعبير مختلفة”

الإعلام والرأي العام:

سلفت الإشارة المكثفة إلى العلاقة الوثيقة بين الرأي العام ووسائل الإعلام. يمكن لوسيلة من وسائل التواصل الاجتماعي المنتشرة اليوم أن تحدث تأثيراً في تشكيل وتوجيه الرأي العام حول قضية معينة. قبل الوصول إلى هذه المرحلة، يمكن رصد مسار طويل في العلاقة بين الرأي العام ووسائل الإعلام. وإلى الحد الذي يسمح بالقول: إن الدور الفعلي لظاهرة الرأي العام المؤثر إنما بدأ مع انتشار البث الإعلامي على نطاق واسع بواسطة الراديو ثم التلفزيون والسينما وصولاً إلى ثورة الاتصالات وتجلياتها التي نشهدها اليوم في البث الفضائي والتواصل عبر شبكة الإنترنت. وإذا كان هناك ميل عام للحديث عن دور المنشور والخطب والجرائد في مرحلة ما، فيمكن الافتراض أنها لعبت دوراً، ولكنه كان موجهاً للنخب ولفئات اجتماعية محدودة، ولكن المعلومات تتدفق اليوم على نحو غير مسبوق وهي في متناول الجميع.

وما يميز التدفق الراهن عن مرحلة بدء الانتشار الإعلامي الواسع، أنه يحمل جملة كبيرة من القضايا المتنوعة، والتي ربما تخص مواطنين في مكان ما، لكن وقائعها وتطوراتها تبث إلى جميع الناس. وقد جعل هذا الأمر من المعلومات على اختلاف أنواعها متاحة للجميع، وفي الوقت نفسه، فقد وسع من مجال الرأي العام على نحو غير مسبوق تجاه القضايا الكبرى. ولعل من أدل الأمثلة على ذلك تلك التحركات الكبرى التي سبقت ورافقت إلى حد ما، العدوان الأمريكي على العراق عام 2003، حيث عمت التظاهرات مختلف أنحاء العالم. ولم يكن ممكناً دون الانتشار الكبير لوسائل الإعلام، حدوث هذا الموقف على مستوى الرأي العام، والذي يسمى أحياناً بالرأي العام العالمي. وتستفيد وسائل تواصل عديدة من الإمكانات المتاحة لتوجيه الرأي العام نحو التفاعل مع قضايا تخص مجتمعاً بعينه، ولكنها تحظى باهتمام عالمي أيضاً من قبيل الحفاظ على البيئة ومساعدة المهاجرين ومواجهة المجاعة الخ.

يحيلنا المشهد القائم اليوم إلى النقطة الرئيسية التي تشكل عنوان هذه الورقة. والمتعلقة بالتأثير الإعلامي المحلي والعالمي على الرأي العام. بيد أن الدخول في نقاش جدي وعلمي لهذا العنوان، يفرض بداية مناقشة موضوع هام، يتصل بالدولة ودورها في العملية الإعلامية وهو ما يمكن أن نطلق عليه جوازاً: ” الاحتكار الإعلامي”.

 

الدولة والاحتكار الإعلامي:

المحلي والعالمي:

يقرر “هربرت أ شيللر” أن ” الجهاز الإعلامي أخطر أدوات السيطرة في يد النظام”. وضع شيللر كتابه في مطلع الثمانينات من القرن الماضي. وهو ناقش فيه بشكل مسهب ما وصفه بـ “عمليات التضليل الإعلامي” الهائلة التي تجري في الولايات المتحدة بتحالف بين الجهاز الحكومي ووسائل الإعلام التي تمثل الاحتكارات الكبرى. ومبيناً قدرتها على الحجب والتضخيم والاختلاق والتعمية والحشد والتجييش.

ليس من شك في أن الدول حرصت وما تزال على امتلاك وسائل الإعلام أو السيطرة عليها، إما بشكل مباشر، أو من خلال تحالفات متشابكة. والواقع أنه لا بد هنا من تحديد أطوار لمسار العلاقة بين الدولة ووسائل الإعلام، وتعيين أشكال لهذه العلاقة. فليس من طور واحد، وليس من شكل واحد للعلاقة أيضاً.

في غالبية الدول، ومنها الدول العربية كافة، كانت وسائل الإعلام الجماهيري (الراديو والتلفزيون لاحقاً) مملوكة للدولة. وكان الجهاز الإعلامي الحكومي هو المتحكم بالرسالة الإعلامية، وتوجيه الرأي العام. ما يعني أنه كان مسؤولاً بالكامل عن المحتوى الإعلامي وطريقة عرض هذا المحتوى، الأمر الذي لا يزال قائماً في الإعلام المسمى بـ “الإعلام الرسمي أو الحكومي” حتى الآن.

وثمة انطباع عام حول أن احتكار السلطة لوسائل الإعلام كان مقتصراً على الدول ذات الحكم الشمولي، أو بلدان العالم الثالث، أو تلك التي تغيب عنها إجمالاً القيم الديمقراطية، والتي لا تهتم بحقوق الإنسان ومنها حقه في الوصول إلى المعلومات. ولكن ملاحظة الكاتب الأمريكي “شيللر”، مرة أخرى، تقدم وصفاً مفارقاً لهذا الانطباع النمطي عموماً. يلاحظ شيللر أن ” شكل الاتصال أو الإعلام، على النحو الذي تطور به في البلدان التي يسود فيها اقتصاد السوق وخاصة الولايات المتحدة، هو تجسيد فعلي للتحكم في الوعي”. الحديث هنا عن دول تسود فيها الديقراطية وقيم حقوق الإنسان، والحرية الشخصية وحق الاختيار. ويمكننا حينها تخيل حال الدول غير الديمقراطية.

في كل حال فقد انكسر الاحتكار الحكومي لوسائل الإعلام الجماهيري من خلال طرق عديدة. صحيح أن “الدولة” غالباً ما زالت تحرص على امتلاك وسائل إعلام خاصة بها، وتحملها رسالتها التي تريد إيصالها للجمهور المتلقي والذي يتناقص باستمرار. ولكن احتكارها للوسائل الإعلامية انكسر نتيجة العوامل الاتية:

  1. نمو شبكات الإعلام الخاصة محلياً (وتشمل محطات الإذاعة والتلفزيون والجرائد والمواقع الإلكترونية..).
  2. البث الفضائي الذي اخترق الحدود وجعل من الصعب ولعله من المستحيل على الدولة التحكم في المحتوى الإعلامي الذي يتلقاه مواطنوها.
  3. البث عبر شبكة الانترنت وانتشار وسائل التواصل الاجتماعي التي صارت تشكل نوعاً من الإعلام البديل.

وعليه فإن الحديث عن إعلام محلي الآن لم يعد يعني أن المقصود هو الوسائل الإعلامية التي تملكها الدولة، ذلك أن الإعلام الحكومي يتعرض لمزاحمة من الإعلام الخاص. والإعلام المحلي بشقيه يدخل في منافسة مريرة مع الإعلام العابر للحدود والذي لا يمكن التحكم فيه، وهو أكثر مهارة، وأكثر قدرة على عرض المعلومات بطريقة مشوقة وقادرة على التأثير. وفي ” واقعنا الحالي حيث أصبح العالم ليس قرية صغيرة بل هو عبارة عن بيت واحد ذو غرف متعددة مفتوحة الأبواب على باحة الدار، نظراً لتضارب الآراء والمصالح في أية قضية حتى وإن أخذت اهتماماً عالمياً كالحفاظ على البيئة أو نزع أسلحة الدمار الشامل أو مكافحة الأمراض واسعة الانتشار كالإيدز وانفلونزا الطيور أو مكافحة الفقر والجوع والبطالة والهجرة والتمييز العنصري والمخدرات الخ. حيث أن وسائل الإعلام والاتصال هي من يتلاعب في العقول وهي خالقة الرأي والقرار، وليس الواقع الحقيقي المعاش، حيث تتمكن هذه الوسائل من تصنيع وتخليق واقع وهمي بديل للواقع الحقيقي وبذلك يكون هو المؤثر على مصدر القرار الجماعي والفردي على المستوى الفردي والجماعي المحلي والوطني والإقليمي والعالمي، وبذلك فإن من يمتلك وسائل الإعلام والدعاية الفاعلة يمتلك عقول الناس والرأي العام”.

قبل سنوات قليلة اجتاحت العالم كله حالة من الذعر الذي تسببت به وسائل الإعلام. كان الحديث يدور عن وباء ” إنفلونزا الخنازير” الذي سيجتاح العالم ويخلف ملايين الضحايا. ضج الناس مطالبين حكوماتهم بتأمين اللقاحات المناسبة. أنفقت “منظمة الصحة العالمية” عشرات المليارات على توفير اللقاحات المطلوبة وبالضبط في الوقت الذي أعلن فيه عن توفر اللقاحات، صمت الإعلام فجأة عن “الوباء القاتل”. وتبين أنه وباء مفترض. ثمة من جنى المليارات نتيجة التلاعب بعقول الناس وتخويفهم، وعندما حقق مراده أوعز بالصمت. قلة قليلة هي من يعلم بمصير تلك اللقاحات، ومن يعلم حقيقة التسبب بحالة الذعر تلك.

ثمة مراهنة على النسيان. سطوة الإعلام تستطيع أن تضخم قضية ما. وتستطيع التعمية عليها وكأنها لم تكن والورشة الهائلة وراء إثارة قضية ما وحشد الرأي العام حولها، قادرة على جعل قضايا خطيرة كثيرة في خانة المسكوت عنه. هنا يصبح الإعلام المحلي في كثير من دول العالم، ضحية سطوة وسائل ضخمة وتحت سيطرة صناعة قادرة على أخذ الأمور ووجهات الناس واهتمامهم إلى حيث تريد.

تنبغي الإشارة هنا إلى أن الإرث الذي خلفه الإعلام الحكومي الرسمي، قد خلق غياباً للثقة بالإعلام المحلي على وجه العموم. كما أن لجوء وسائل الإعلام المحلية في عديد من البلدان إلى اعتماد أساليب “الإثارة” المتنوعة بغية جذب اهتمام المتابعين، قد راكم انعدام الثقة بها أيضاً. ولكن الإعلام المحلي يحوز قدرة على التأثير عند تركيزه على “التفاصيل” الخاصة بقضية ما تهم المجتمع المحلي. وفي البلدان الكبرى التي تمتلك تجربة إعلامية كبيرة ووسائل إعلام مؤثرة، فإن إعلامها لا يكتفي بجذب اهتمام الجمهور المحلي، بل يتخطاه إلى الجمهور في البلدان الأخرى. وهو يتحول إلى التأثير المزدوج في هذه الحالة.

وفي المحصلة، فإن كلا الإعلامين المحلي والدولي يؤثران بنسب متفاوتة في “الرأي العام” وتعود الغلبة في هذه الحالة أو تلك، إلى طبيعة الموضوع المطروح والذي يشكل مدار اهتمام الناس، أو انهم جذبوا للاهتمام به. ثم هناك طريقة عرض الموضوع، ووفق آليات تتوخى التأثير على توجهات الناس.

الحقوق والتشويه:    

اقتضى الحصول على الحق في الوصول إلى “المعلومات” بمعنى معرفة مسار عديد من القضايا التي تهم مصالح الناس وحياتهم اليومية، نضالاً طويلاً ومعقداً. إنه ذات المسار إلى الديمقراطية وحقوق الإنسان والتي صار منها الحق في المشاركة والوصول إلى المعلومة. ثم نظمت الدساتير عمليات الإعلام والنشر وتبادل المعلومات، لجهة الحقوق والواجبات.

ومن المتصور أن المجتمعات التي عرفت الطريق إلى الديمقراطية، وأقرت فيها الحقوق الأساسية للناس قد شهدت بالتوازي نهوضاً إعلامياً كبيراً، وصار فيها للرأي العام صوته المسموع. وذلك على العكس من الدول التي غابت عنها الديمقراطية وساد فيها القمع والتكميم، حيث بقي الإعلام متخلفاً وسيطرت الدولة بشدة على وسائل الإعلام. وكان تأثيرها الإجمالي في الرأي العام ضعيفاً، مع العلم أنه لا يمكن الحديث عن رأي عام فاعل ومؤثر، دون حرية، أي دون ممارسة ديمقراطية حقيقية تتيح الالتقاء والتفاعل وتشكيل توجه بإزاء قضية من القضايا.

أشرنا إلى التغيير الذي حدث مع ثورة الاتصالات، وكسر احتكار الدولة لوسائل الإعلام، ووجود إعلام عابر للحدود الوطنية وقادر على التأثير في الناس. غير أن انتشار الديمقراطية والحضور المؤثر لوسائل الإعلام، لا يعني بشكل آلي أن الناس قد وصلت إلى الحقائق. أو الحقيقة بتعبير أدق، وعلى نحو يتيح لها تشكيل الموقف المطلوب بإزاء القضايا التي تهمهما، أو تعني الوجود الإنساني بعامة.

سوف تخبرنا التجربة عن المرات الكثيرة التي وقع فيها الناس ضحية لوسائل الإعلام في الديمقراطيات الكبيرة، ناهيك عن الدول الأخرى. ففي تلك الديمقراطيات التي تنتشر فيها وسائل إعلام عملاقة، وصناعة إعلامية ضخمة، وصناعة سينما، يشكل الربح التجاري محركاً أساسياً لتلك الأنشطة والصناعات على تنوعها الكبير. وعندما يكون الربح محركاً، فإن عرض الحقائق ليس هو الغاية. بل عرض ذلك النوع من المعطيات التي تخدم قوة الاحتكارات والشركات الكبرى. وعندما تثار قضية ذات بعد إنساني، ينبغي التفكير في سبب الحديث عنها، ومحاولة الحشد من أجلها في توقيت معين. وتغييب هذا النوع من التفكير يشكل هدفاً لوسائل الإعلام التي تمارس التضليل.

يلاحظ شيللر بدقة أنه ” لكي يؤدي التضليل الإعلامي دوره بفعالية أكبر، لا بد من إخفاء شواهد وجوده. أي أن التضليل يكون ناجحاً عندما يشعر المضللون بأن الأشياء هي على ما هي عليه من الوجهة الطبيعية والحتمية. بإيجاز شديد نقول: إن التضليل الإعلامي يقتضي واقعاً زائفاً هو الإنكار المستمر لوجوده أصلاً”

حقق النمو الكبير لوسائط التواصل الاجتماعي بعض الاختراقات المحدودة للنوع المتطور من الاحتكار الإعلامي، والذي لا تتولاه الدولة، بل الشركات الكبرى. ولكن تلك الوسائط ما زالت أضعف بكثير من وسائل إعلام عملاقة، ولها وسائطها المتعددة في التأثير على الجمهور محلياً وعالمياً. ومن دلائل قدرتها أنها تستطيع جذب اهتمام العالم كله إلى قضية قد تبدو في مجتمع ما، قضية ذات طابع محلي محض.

خلاصة:

تطور مفهوم الرأي العام عبر مدى زمني طويل. ولعبت وسائل الإعلام دوراً كبيراً في زيادة دوره وتأثيره على السياسات العامة، بحيث باتت الحكومات، وحتى أصحاب المصالح الكبرى، مجبرين على لحظ موقف الرأي العام عند اتخاذ أي قرار تكون له انعكاساته على الناس، سواء تعلق الأمر بالسياسات المحلية الاقتصادية والاجتماعية والسياسية، أم بالسياسات ذات الطابع الخارجي، كالعلاقات الدبلوماسية والحروب والاتفاقات الاقتصادية.

بيد أن وسائل الإعلام التي لعبت دورها الكبير في تنمية الرأي العام، وإبراز قدرته على التأثير هي ذاتها التي امتلكت القدرة على أخذه في اتجاهات محددة، وكانت قادرة أيضاً على تضليله، وحتى تشويه وعيه وإدراكه تجاه الكثير من القضايا.

وإذا كانت وسائل الإعلام المحلية في الدول الضعيفة تعاني من فقدان قدرتها على التأثير الكبير في الرأي العام مقابل وسائل الإعلام الدولية الضخمة ومتعددة الأذرع، فإن الإعلام البديل يسير بخطى حثيثة لاحتلال مكانته بين الإعلامين اللذين يحمل هو بالذات سمات مشتركة في ما بينهما.

نافذ أبو حسنة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *