الأمن والبرنامج.. وحكومة التوافق

كما هو الحال دوماً، ومثل ما حدث في مرات سابقة، لا يريد طرفا الانقسام/ المصالحة، سماع أي سؤال عن عقبات أو عثرات تعترض ما يرون فيه اندفاعة كبيرة، ستسفر عن مصالحة متحققة، تبدأ بتشكيل حكومة التوافق، وتتبعها خطوات أخرى.

من المتصور أن أحداً لا يرفض إنجاز مصالحة فلسطينية، تنهي مرحلة بائسة، وأداء ألحق ضرراً كبيراً بفلسطين، ومكانة القضية الفلسطينية، لكن مجرد الجهر اليومي بتأييد المصالحة وبركاتها، لا يعني أنها أصبحت واقعاً قائماً، كما أنه لا يعني بالضرورة اعتبار الجهد القائم في مصلحة المصالحة المطلوبة، وأساساً في مصلحة فلسطين وقضيتها.

جملة من الأسئلة بدأت تطرح نفسها بقوة، حول مآل الجهود القائمة لإنجاز المصالحة، ولا تستند هذه الأسئلة إلى ما تنطق به التجارب السابقة وحسب، بل أيضاً إلى المسار الذي يعتبره الطرفان محاطاً بكثير من الضوضاء الإنشائية، عن الخير العميم الذي ستأتي به جهودهما.

وبصرف النظر عن حقيقة أن البدء بتشكيل الحكومة، يعني اختيار طريق للفشل، بغياب ترتيب لازم للمؤسسة الأم، أي منظمة التحرير الفلسطينية، فإن العقبات الفعلية في تشكيل الحكومة بدأت بالظهور، ويتم التعامل معها على طريقة، خياطة الجروح دون تنظيف.

في تصريحات لمسؤولين من الطرفين، فإن الحكومة العتيدة ستبصر النور قريباً، فقد تحدث الناطق باسم رئاسة السلطة (واللجنة المركزية لحركة فتح أيضاً) نبيل أبو ردينة، وفي أعقاب اجتماع للجنة المركزية، عن استماع اللجنة “إلى تقرير من عزام الأحمد حول الجهود المبذولة لتشكيل حكومة (الوفاق الوطني)، التي ستتشكل من المستقلين (التكنوقراط)، والتي من المقرر أن تؤدي اليمين القانونية أمام السيد الرئيس في غضون أسبوع”، (نُشرت هذه التصريحات مطلع الأسبوع الجاري).

كلام بالمعنى نفسه صدر عن موسى أبو مرزوق؛ نائب رئيس المكتب السياسي لـ”حركة حماس”، والذي أوضح أن حركتي حماس وفتح راعتا أن يكون الوزراء مستقلين، وعليهم شبه إجماع وطني، وملفاتهم نظيفة، بالإضافة لعدم وجود “فيتو” إقليمي ودولي، مضيفاً: أن “حكومة التوافق الوطني المقبلة ستعيد توحيد الوزارات بين كل من قطاع غزة والضفة الغربية المحتلة باستثناء وزارة الداخلية”.

عقدة الأمن

ما نفهمه من التصريحات أعلاه، أن الإعلان عن ولادة الحكومة بات قريباً، لكن حديث قيادي حماس موسى أبو مرزوق عن توحيد الوزارات يثير الكثير من التساؤلات، فهو يشير إلى أن الوحدة لن تشمل وزارة الداخلية، يفهم من هذا أنه ستكون هناك وزارتان للداخلية، واحدة في غزة وأخرى في رام الله، ووجود وزارتين يعني وجود وزيرين، وفي هذه الحالة هل سيؤدي وزيران اليمين أمام الرئيس؟

يبدو الأمر مثيراً للسخرية، ولكنها أسئلة مشروعة تماماً، وتشرع الباب أمام تساؤل أكبر عن كيفية حل هذه العقدة الجدية، من يذكر مجريات الجولات السابقة، ستحضر أمامه على الفور حكاية ما يعرف بعقدة الأمن، وبمستوياتها المتعددة.

في المستوى الأول يثار موضوع “الأمن الفلسطيني” ووظيفته وفق منطوق اتفاق أوسلو، هنا تعيين لوظيفة تسبب شعوراً بالعار لأي وطني فلسطيني، لقد عبر قياديون في السلطة المتشكلة بموجب أوسلو عن حقيقة هذه الوظيفة دون مجاملة أو تزويق، قال أحدهم: “مهمتنا حماية الاتفاق، وهذا يعني حتى حماية المستوطنين”.

انهار جانب كبير من هذه الوظيفة أثناء انتفاضة الأقصى، واليوم عادت من خلال ما يعرف بالتنسيق الأمني، وهذه مهمة قذرة، ويكفي.

الآن وعند الحديث عن حكومة جديدة ووزير داخلية، يتوجب تعيين الوظيفة الأمنية للأجهزة الفلسطينية، هي تقوم بالتنسيق الأمني المباشر مع العدو المحتل في الضفة، وتحمي أمن الحكومة في غزة، ولا تتردد في المكانين بقمع الاحتجاجات الشعبية حتى لو كانت مناهضة للاحتلال مباشرة، (نماذج أداء السلطة في الخليل وغيرها، وفي غزة يوم ذكرى النكبة مؤخراً).

في المستوى الثاني، يبرز موضوع النفوذ والمحاصصة بين طرفي الانقسام/ المصالحة، تورطت الأجهزة الأمنية بشكل كبير في الضفة وغزة، الولاءات موزعة بين الحكومتين والحزبين الحاكمين في الضفة والقطاع، الصعوبات التي تواجه الطرفين على هذا المستوى، لا تقل عن المعضلة الحادة في المستوى الأول.

دار كلام عن إعادة هيكلة للأجهزة الأمنية تتولاها مصر، وقال أبو مرزوق: إن مهمة إعادة هيكلة أجهزة الأمن وتوحيدها ستكون من نصيب اللجنة الأمنية العربية برئاسة مصر، مشيراً إلى أن وزير الداخلية في حكومة التوافق لن يغير في هيكلة الوزارة.

وكانت مصادر فلسطينية نقلت عن عزام الأحمد، عضو مركزية فتح، كلاماً بالمعنى نفسه حول هيكلة الأجهزة الأمنية، وإعادة بنائها، وإن كان الأحمد لم يأت على ذكر لجنة عربية، مشيراً إلى أن الاتفاق تم مع مصر، وقد رفضت المصادر المصرية المعنية التعليق مباشرة على هذا الموضوع، وإن كانت نفت العلم باتفاق يخص الأجهزة الأمنية الفلسطينية.

في كل حال، تبقى عقدة الأمن وأجهزته قائمة، وهي سبب رئيسي في طرح الكثير من التساؤلات، حول مآل جهود المصالحة، وقد يكون ممكناً على نحو ما، تخطي مشكلات النفوذ والحصص والترتيبات المتعلقة بالهيكلة، (وذلك رغم ما أثير عن ترقيات جرت في وزارات حكومة غزة في الفترة الأخيرة، والتي قال عنها أبو مرزوق، إن هناك “بعض التغييرات الطفيفة التي لا تكاد تذكر، وهي حالات محدودة وضرورية جداً، وفي وقتها، وبموجب القانون”)، ولكن ماذا عن الوظيفة والدور اللذين ستقوم بهما الأجهزة الأمنية؟

.. وعقدة البرنامج

تتجاهل حركة فتح والسلطة في رام الله أي دور للمجلس التشريعي في تشكيل ومنح الثقة للحكومة العتيدة، في المقابل تظهر حماس إصراراً على دور واضح للمجلس التشريعي، فقد أكد أبو مرزوق “أن المجلس التشريعي الفلسطيني سينعقد بعد شهر من تشكيل حكومة التوافق الوطني الفلسطينية لمنح الثقة للحكومة واختيار رئاسة جديدة له، وإعادة ترتيب أموره الإدارية”.

لم تتعامل السلطة يوماً بجدية مع المجلس الذي تشكل حماس غالبية فيه، ومن المتوقع أن تتذرع السلطة بمقولة إن الحكومة مؤقتة ومهمتها هي إجراء انتخابات رئاسية وتشريعية، وبالتالي ليس من داع لإجراء منح الثقة، ومن مجلس انتهت صلاحيته القانونية.

ووفق مصادر فلسطينية، فإن حماس تحرص على دور للمجلس، وتريد تكريس حضوره، من خلال إمرار الحكومة عبره، وفي حال جرى تأجيل للانتخابات لأي سبب من الأسباب، فإن المجلس يكون صاحب حضور في المشهد، بصرف النظر عن أهمية ما يمكنه القيام به، ويبدو التفكير على هذا النحو مفهوماً، خصوصاً مع الإهمال المتعمد والطويل الذي مارسته السلطة تجاه مجلس منتخب.

ولكن السؤال يثار مرة أخرى حول موضوع منح الثقة، فمن المعروف أن الثقة تمنح للأشخاص الذين تتكون منهم الحكومة، لكن وأساساً للبرنامج الذي ستعرضه هذه الحكومة، ويتم التصويت على مدى جديته وعلى مدى استجابته للمشكلات التي يواجهها الناس.

نحن هنا بإزاء حالة فريدة، الطرفان اللذان يشكلان بنية المجلس توافقا على الأسماء المشكلة للحكومة مسبقاً، بحثا في كل اسم ونالت الأسماء موافقة منهما، هذا على صعيد الأسماء، أما على صعيد البرنامج فليس لهذه الحكومة برنامج يمكن التصويت عليه.

يقول موسى أبو مرزوق: “إن كافة وزراء الحكومة المقبلة من المستقلين، وهم ذوو كفاءة، وهي حكومة “تكنوقراط”، وليس لها برنامج سياسي”، فما هو مدار موضوع منح الثقة في هذه الحالة؟ ليس أكثر من إجراء شكلي يتعلق بما أشرنا إليه آنفاً حول الدور المراد للتشريعي القائم، وتحسباً لتأخير إجراء الانتخابات.

إذاً لا برنامج سياسياً للحكومة، وهذا متوقع، فلا برنامج سياسياً للمصالحة، ولا يزال الكلام السياسي غائباً عن مجرياتها، باستثناء تلك العبارات العامة، حول برنامج المقاومة والتمسك بالمقاومة، والعبارات العامة من الجهة المقابلة، عن التمسك بالثوابت الوطنية.

من المفهوم أن بحثاً جدياً في البرنامج السياسي الوطني، يتطلب جهداً من نوع مختلف عما هو قائم بين الطرفين حالياً، وقد يكون سبباً في إعاقة الترتيبات الجاري العمل عليها، لا غياب برنامج واضح، يجعل كل هذا الجهد قابلاً للانهيار، لا نريد العودة إلى الانقسام، هذا أكيد، نريد مصالحة جادة وحقيقية، هذا أكيد أيضاً.

25/05/2014

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *