إنهاء الإجماع التاريخي على شرعية المقاومة غاية لتدويل الصراع الفلسطيني الداخلي

ذات اجتياح لقطاع غزة، أطلق وزير الحرب الصهيوني في حينه: موشيه دايان، فكرته القائلة: “بعزل السمك عن الماء”. قاصداً بذلك وحدات الفدائيين التي كانت تتمتع بحاضنة شعبية قوية جداً في مخيمات القطاع ومدنه وقراه، ما مكنها من السيطرة عليه في الليل كاملاً، وجزئياً في النهار، بعد سنوات من احتلاله عام 1967.

تولى ضباط دايان محاولة تنفيذ الفكرة، فشنوا حملات تنكيل وقمع ضد اهالي القطاع، وطبقوا سياسة العقاب الجماعي على نطاق واسع، لكن كل ذلك لم يفلح في “عزل السمك عن الماء”، بل ازداد التأييد الشعبي للمقاومة، وارتفعت أعداد المنخرطين في العمل المباشر ضد قوات الاحتلال.

حينها جرى أستدعاء شارون وتكليفه بالمهمة، وعلى مدى عامين أدخل الجرافات الضخمة إلى أزقة المخيمات والقرى، وقام بتشطيرها إلى مربعات صغيرة، بحيث باعد بين البيت والبيت، وبين البيت وساحته.

تراجعت وتيرة أعمال المقاومة في قطاع غزة بافتقاد الفدائيين حتى لبستان صغير يلوذون إليه، بعد ما اقتلعت الأشجار ودمرت البيوت، لكن الاحتلال وسواه يعترف بأن عوامل أخرى ساهمت في إضعاف المقاومة، ومن ذلك الأحداث الدامية في الأردن بين المقاومة والسلطات الأردنية.

ضعفت المقاومة، لكنها لم تُرفض من الشعب، ولم يتخلخل الإجماع على الحق في مقاومة الاحتلال. ومعلوم أن قطاع غزة – رغم كل ما تعّرض له- عاد ليطلق شرارة الكفاح من جديد، أقله في انتفاضتين شعبيتين كبيرتين (1987 و2000)، وبينهما لم تتوقف المقاومة فيه مطلقاً، إذ كانت ولا تزال عادة يومية، وإن لم تكن شاملة فإنها لم تفقد عنصر الاستمرار.

 بدأ الفلسطينيون كفاحهم ضد غاصبي أرضهم منذ نهايات القرن التاسع عشر, حيث خاضوا أولى المواجهات في قرية “ملبس” عام 1887، وطوال هذا التاريخ حققوا إجماعاً وطنياً كبيراًعلى حقهم في المقاومة و تأييدها، ولم تخرقه سوى اسستثناءات لا تكاد تذكر من مجموعات ربطت مصالحها بمصالح المحتل، ولفظها الشعب الفلسطيني من صفوفه.

وحتى في أوج الاندفاع الرسمي الفلسطيني نحو التسوية مع العدو، لم تتوفر للقيادة الفلسطينية ولا حتى لقطاعات من القوى التي أيدت التسوية، الجرأة على ضرب مشروعية المقاومة والتنصل منها، غير أن البعض أطلوا برؤوسهم ليرفضوا أشكالاً من العمل المقاوم مثل العمليات الاستشهادية، ثم عادوا ليرفعوا صوتهم أكثر، بعد وضع ما أُسمي “خارطة الطريق” والتي تنص البنود الأولى منها: على قيام السلطة الفلسطينية برفض العنف، واعتقال المسلحين، وسحب الأسلحة من الفصائل الفلسطينية”.

أقرت ” خارطة الطريق” عام 2003، وفرض الحصار على الرئيس الفلسطيني ياسر عرفات (رحمه الله) لرفضه الإقرار بمندرجاتها وفق التصور الصهيوني- الأمريكي، ودفع حياته ثمناً لهذا الرفض. وفي السنوات التالية كانت الأصوات التي تناهض المقاومة بين الحين والآخر تواجَه بردَّات فعل شعبية قاسية، فتعود إلى الحديث عن أنها تقصد أشكالاً محددة من المقاومة، وليس المقاومة كحق مشروع لشعب أرضه محتلة وهو مقتلع منها، أو لا يملك حق الحياة فيها.

لكن الأمر اتخذ منحى خطيراً في الأيام القليلة الماضية. فقد تقدم مندوب فلسطين بالأمم المتحدة بمشروع قرار إلى المنظمة الدولية، يطالب فيه بإصدار قرار دولي يعتبر” دولة حماس” مليشيا غير مشروعة.

وبحسب مصدر فلسطيني واسع الإطلاع، فإن السفير رياض منصور صاغ هذا المشروع بالتشاور مع عدد من الدول الأوربية، قبل أن يفاتح به أحداً من ممثلي المجموعة العربية، في سابقة هي الأولى من نوعها. ويقول المصدر المذكور:”إن السفراء العرب فوجئوا بما قام به سفير فلسطين، وأحبطوا تحركه، لما رأوا فيه من مخاطر. وكان لافتاً حسب المصدر ذاته، أن كافة السفراء العرب وبينهم : سفيرا مصر والأردن ودول عربية أخرى، في ما يسمى محور الاعتدال، رفضوا مشروع القرار كلية”.

وفي تفسير موقف هؤلاء، قال المصدر الفلسطيني ل(نون والقلم): إن مندوبي تلك الدول– ورغم موقفهم من حركات المقاومة الفلسطينية- يدركون معنى إصدار قرار دولي عن مجلس الأمن مثلاً، بحظر تنظيم فلسطيني، إذ سيضطرون للالتزام بمضمونه، ما سيدخلهم بمشكلات هم بغنى عنها. كما لا يريدون أن يسجلوا على أنفسهم مثل هذا الموقف السافر من منظمة فلسطينية تواجه الاحتلال”.

  معلوم أن البعثة الفلسطينية لدى الأمم المتحدة نفت مثل وجود هذا المشروع أصلاً. لكن النص الذي توافر بين أيدي السفراء العرب، جعل النفي الفلسطيني بلا قيمة تذكر، فضلاً عن أن السفير رياض منصور صاحب سوابق معروفة، مثل اشتراكه والمندوب الصهيوني  في إحباط مشروع قرار قطري- أندونيسي للأمم المتحدة، باعتبار غزة منطقة منكوبة.

إلى هنا تكاد تطوى قصة مشروع القرار الغريب، لكن تتمتها تمكن في الدلالة التي ينطوي عليها السعي إلى تدويل صراع فصائلي أو خصومة سياسية، و الاستقواء بقرار دولي لمواجهة فصيل مقاوم، وهي ضرب الإجماع الفلسطيني على شرعية المقاومة ضد الاحتلال القائم على أرض فلسطين،وصولاً إلى اعتبار المقاومة نفسها عملاً غير مشروع، وهو ما يتناقض مع الحق، وحتى مع القرارات الدولية التي أعطت الشعوب الواقعة تحت الاحتلال،الحق قي مقاومة المحتلين وتقرير مصيرها بنفسها.

كما أن القرار الذي تُستهدَف به “حماس” اليوم، سوف يصبح سابقة تطال كل قوة فلسطينية تمتلك مشروعاً لممارسة حقها في مواجهة الاحتلال.

 وتربط مصادر فلسطينية بين التحرك الذي جرى في الأمم المتحدة، وما يدور في المفاوضات الفلسطينية- الصهيونية عشية اجتماع أنابوليس، حول خارطة الطريق، بمقتضيات البند الأول منها، لتخلص إلى وجود محاولة لإيجاد انقسام شعبي عميق حول فكرة المقاومة. فمقتضيات الخارطة تعني حرباً أهلية كيفما أديرت، والخشية هي أن يكون قد بدأ التمهيد لها، فتذهب القضية أدراج الرياح، بعد أن انخفض عدد “بواكيها” إلى حد يكاد لا يصدق.

إن كان هؤلاء يعون ما يفعلون فهي مصيبة كبرى تهدد فلسطين وقضيتها، والأرجح أنهم يعون ما يعنيه إنهاء إجماع تاريخي على حق الشعب في مقاومة محتلي أرضه وغاصبي حقوقه.

————

العدد 26 ت2 2007 (جعبة القلم)

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *