ألاعيب تافهة.. ومواقف غائبة

نشرت وسائل إعلام فلسطينية وغير فلسطينية تقارير تفيد بأن رئيس الوفد الفلسطيني المفاوض صائب عريقات وعضو الوفد محمد اشتية وباقي أعضاء الوفد المفاوض، وضعوا استقالتهم من المفاوضات تحت تصرف رئيس السلطة الفلسطينية محمود عباس، وذلك بعد وصولهما (عريقات واشتية) إلى قناعة بعدم جدوى التفاوض، وحسب التقارير المشار إليها، فإن عريقات واشتية حاولا أكثر من مرة ترك جلسة صاخبة للمفاوضات قبل يوم من الاستقالة، احتجاجا على كيفية إدارة المفاوضات وتوجيهها بطريقة اعتبراها مضيعة للوقت.

صحيفة القدس العربي نقلت عن مصدر فلسطيني قوله، إن الفلسطينيين أصيبوا بإحباط وغضب كبيرين بعد قرارين “إسرائيليين” وهما: هدم 20 منزلاً في القدس وبناء وحدات استيطانية، وأضاف المصدر أن القيادة الفلسطينية تدرس إمكانية وقف المفاوضات واستئناف طلبات الانضمام للمؤسسات الدولية في الأمم المتحدة.

الاستقالة بحسب التقارير الصحافية وضعت بتصرف رئيس السلطة، ويدور الحديث عن اجتماعات قيادية لاتخاذ الموقف المناسب، لكن أعضاء في اللجنة التنفيذية لمنظمة التحرير الفلسطينية، وهؤلاء جزء من القيادة الفلسطينية، ويحضرون الاجتماعات القيادية، نفوا قيام الوفد المفاوض بتقديم استقالته، حتى أن السيد واصل أبو يوسف؛ عضو اللجنة التنفيذية الموقرة، اعتبر نشر خبر الاستقالة في إعلام دولة الاحتلال، بمنزلة “حرب نفسية ضد الشعب الفلسطيني”، مضيفاً: “كل ما في الأمر أنه حتى اللحظة لا يوجد تقدم في المفاوضات”.

صائب عريقات نفسه قال: “إن استمرار حكومة الاحتلال الإسرائيلية في البناء الاستيطاني في الأرض الفلسطينية المحتلة، يضع العراقيل أمام عملية التسوية على الأرض”، وأضاف عريقات أن “القيادة الفلسطينية” طلبت من واشنطن الضغط على “إسرائيل” لوقف الأنشطة الاستيطانية، مؤكدًا أن كافة أشكال الاستيطان غير شرعية وباطلة قانونياً، وبالطبع لم يأت على ذكر الاستقالة أو ما يشبهها.

من يصدّق صائب عريقات؟

منذ بداية نشر التقارير المتعلقة باستقالة الوفد المفاوض، كان من الصعب على أي متابع أخذ المسألة على محمل الجد، خصوصاً عند القول: إن الاستقالة جاءت بسبب الأنشطة الاستيطانية، فمن المعروف أن وفد السلطة الفلسطينية عاد إلى المفاوضات وهو يعرف جيداً جداً أن الاحتلال رفض رفضاً قطعياً التجاوب مع المطلب المتكرر بوقف الاستيطان أو حتى تجميده، كما أنه يعرف جيداً بأن النشاط الاستيطاني ظل مستمراً على الأرض ولم يتوقف للحظة واحدة، وعليه فإن السبب الذي سيق مسوغاً لتقديم الاستقالة يبدو غير مفهوم، ليس هذا وحسب، فالسيد عريقات، وهو المغرم بالتفاوض (دون إدراك فنونه ومقتضياته) ميّال لمثل هذا النوع من الاستعراضات الفارغة، وفي تاريخه التفاوضي استقالات كثيرة، وحالات من “الحرد”، كان آخرها عندما احتج على عدم معرفته بما يدور بين رئيس السلطة، ووزير الخارجية الأميركية جون كيري من تفاهمات، أثناء جولات الأخير المخصصة لإطلاق المفاوضات، لكن حرد السيد عريقات من النوع الذي لا يصل إلى مرحلة الغضب، يبقى حرداً يسهل التغلب عليه، خصوصاً مع رجل يؤمن إيماناً عميقاً بأن “الحياة مفاوضات” ويتوهم لنفسه قدرات استثنائية على هذا الصعيد.

الاستيطان.. والأسرى

لكن للجولة الاستعراضية الخاصة بالاستقالة من المفاوضات ما يبررها، ليس لأن عريقات مستاء من الاستيطان، بل بسبب تصريحات لمسؤولين صهاينة، تربط بين الإفراج عن الأسرى الفلسطينيين، وبين استمرار الأنشطة الاستيطانية، حتى أن بين هؤلاء من قال: لقد أطلقنا عدداً من الأسرى، واتخذنا قراراً بتعزيز الاستيطان، والحقيقة أن الاستيطان لم يتوقف أصلاً، وربما أراد الصهاينة هنا توجيه رسالة داخلية للمستوطنين ولبعض شركاء نتنياهو في الائتلاف الحاكم، وتوجيه رسالة أخرى للمفاوضين تزيد من حرجهم، وتؤكد لهم أن أي كلام عن وقف الاستيطان أو تجميده، لا يمكن تمريره من خلال متابعة جولات التفاوض.

يعرف الصهاينة حساسية موضوع الأسرى لدى عموم الشعب الفلسطيني، وهم يريدون الاستثمار إلى الحد الأقصى في قضية ذات أبعاد كثيرة ومتشعبة، وبحسب متابعين عن قرب لهذا الملف، يقوم الاحتلال بعملية ابتزاز دائمة، ويريدون فرض تنازلات جديدة على الجانب الفلسطيني الذي يعتبر الإفراج عن الأسرى إنجازاً يبرر به متابعة المفاوضات.

يتصور عريقات أن الضوضاء التي يثيرها بالحديث عن الاستقالة ونفيها، وعن الاجتماعات القيادية لدرس مستقبل المفاوضات ومصيرها، ربما يغطي على فضيحة وطنية وتفاوضية في الآن عينه، لسنا نريد الخوض في ما يحكى عن صفقة مقايضة بين الإفراج عن الأسرى، والاستمرار في الاستيطان، بل في الطريقة التي يتصرف بها فرسان التفاوض، غير مستفيدين من دروس يفترض أنهم راكموها على مدى أكثر من عشرين عاماً، من البؤس التفاوضي.

يطقطقون بالمسابح

“كانوا يطقطقون بالمسابح..”، هكذا وصف فرسان التفاوض الفلسطيني في أوسلو وسواها، كان الحديث يدور عن مفاوضين صهاينة جاؤوا إلى المفاوضات مسلحين بكل أنواع الخرائط والدراسات، ومفاوضين فلسطينيين جاؤوا خاوي الوفاض إلا من القدرات المفترضة، والمحفوظة في أذهانهم، ويحملون المسابح لتزجية الوقت أيضاً.

لا يمكن توقع إنجاز تفاوضي من أمثال هؤلاء، بصرف النظر عن الموقف من المفاوضات أصلاً، ولكن إن كان هناك دخول لهذا المعترك فليتم كما ينبغي، أي بالاستعداد الجيد له، كان الحديث عن “المسابح” عام 93، وقت التفاوض على أوسلو، وما زال الوضع على حاله، لقد ذهب المفاوضون إلى الجلسات وأيديهم فارغة حتى من دراسة يتمية، أو قائمة واحدة للأسرى الفلسطينيين، والأدهى من ذلك أنهم وافقوا على تجزئة الإفراج عن مئة وأربعة من الأسرى منذ ما قبل أوسلو، إلى أربع دفعات، دون أن يكون لهم دور في تحديد التوقيت، أو تعيين الأسماء.

يقول متابع للأداء التفاوضي الفلسطيني: كان هناك إدراك لدى السلطة، ومعرفة أيضاً بمدى الإصرار الأميركي على استئناف المفاوضات، وعرف هؤلاء أيضاً بأن حكومة نتنياهو لا تريد التزحزح عن موقفها بخصوص الاستيطان، وعليه كان يتوجب التركيز على موضوع الأسرى، بمعنى اشتراط الإفراج عن كافة المعتقلين ما قبل أوسلو، قبل الدخول إلى المفاوضات.

ويضيف: كان بالإمكان تحصيل هذا المطلب، وما هو أكثر منه، عبر الضغط الأميركي الذي يتحدثون عنه، ويطالبون بتحريكه الآن، المشكلة هي في وجود أشخاص، لا يحسنون رؤية ما بين أيديهم من أوراق، وإذا رأوها لا يعرفون كيفية استخدامها.

في كل اتفاق يكون البند الأول وقف النار، والبند الثاني تبادل الأسرى، لم يوقف أوسلو النار الموجهة نحو شعبنا، وبعد عشرين عاماً يرفض الاحتلال الإفراج عن أسرى ما قبل الاتفاق، هذا بؤس غير مسبوق، ومرة أخرى بصرف النظر عن الموقف من التفاوض مع الاحتلال من حيث المبدأ.

الابتزاز بالتجزئة

قضت التفاهمات الخاصة باستئناف المفاوضات، بالإفراج عن 104 أسرى منذ ما قبل أوسلو، وقبل الوفد الفلسطيني بتجزئة الإفراج عنهم إلى أربع دفعات، ما فتح الباب واسعاً أمام الصهاينة لممارسة اللعبة التقليدية في الابتزاز والمراوغة، وقد كان الحديث عن المقايضة بين الإفراج عن الأسرى واستمرار الاستيطان نموذجاً على الابتزاز المشار إليه.

وعندما نتحدث عن أسرى ما قبل أوسلو، فهناك 26 أسيراً من أبناء القدس والأراضي المحتلة عام 48، والذين يعتبرهم الصهاينة “إسرائيليين” لا دخل للسلطة الفلسطينية بهم، وهذا يزيد من معدلات الابتنزاز الصهيوني و”بذرائع قانونية”.

يتحدث بعض المقربين من دوائر التفاوض، عن أن رئيس السلطة الفلسطينية، حاول ولمرات عديدة الحصول على وجود اسم واحد من هؤلاء الأسرى ضمن الدفعة الأولى، طلب هذا الأمر من وزير الخارجية الأميركي جون كيري، الذي عاد إليه في كل مرة حاملاً رفضاً من نتنياهو للفكرة، ثم تكررت المحاولة مع الدفعة الثانية دون جدوى.

الدفعتان من الأسرى الذين جرى الإفراج عنهم هم من أبناء الضفة الغربية وقطاع غزة، وإذا كانت هناك دفعة ثالثة فيجب أن تتضمن بالضرورة عدداً من أبناء القدس والأراضي المحتلة عام 48، وستكون الدفعة الرابعة مشتملة على من يتبقى منهم، وهذا سيشكل امتحاناً صعباً، يريد الصهاينة معه الحصول على أثمان كبيرة، وهكذا تكثر التصريحات الآن عن الاستيطان ومستقبل حدود الدولة الفلسطينية مع الأردن وغير ذلك من المواقف الصهيونية المتتابعة.

وهكذا يبدو واضحاً تحرك الصهاينة من خلال إستراتيجية واضحة، وتسليم الوفد المفاوض بمجرد الدخول إلى المفاوضات مجدداً، ومن قبل بتجزئة الإفراج عن الأسرى، يحصد الآن مرارات التعامل مع الابتزاز الصهيوني.

والتعامل مع هذا الابتزاز لا يكون بمناورات “الحرد”، والابتعاد عن ذكر الحقائق كما هي، ليجرب هؤلاء، وطالما أنهم يريدون الاستمرار في مهزلة المفاوضات وعبثها، أن يحسنوا التعامل لمرة واحدة، مرة واحدة فقط يعلنون فيها موقفاً جدياً ويتمسكون به، حتى الحصول على بعض المكاسب بمقاييس التفاوض نفسها، مثلاً: لا عودة للمفاوضات دون تبييض السجون، مثلاً: لا عودة للتفاوض دون وقف الاستيطان، لسنا نراهن على موقف من هذا القبيل، ولكننا نستطيع القول: من المعيب التعامل مع قضية الشعب الفلسطيني على هذا النحو البائس والمهين.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *