واشنطن – تل أبيب.. من الحلف الاستراتيجي إلى “القداسة”

مثلما هي العادة؛ كلما وقف رئيس أميركي أمام اجتماع للإيباك، خُيِّل لمن يستمع إليه أن المتحدث هو واحد من غلاة الصهيونيين المتطرفين.. لا يختلف في ذلك الرؤساء من الحزب الديمقراطي عن الرؤساء الآتين من الحزب الجمهوري، ويمكن للمرء أن يتذكر هنا حديثا لرئيس الوزراء الصهيوني الأسبق آريئيل شارون، عبّر فيه عن كونه قد شعر بأن صقور الليكود بدوا مثل حمامات وديعة، مقابل ما سمعه من أعضاء الفريق المحيط بالرئيس الأميركي السابق جورج بوش الابن.

وقتها ساد انطباع لدى البعض بأن بوش الابن وحلقة المحافظين الجدد المحيطة به، كانوا حالة استثنائية، والحقيقة أن الأمر ليس كذلك، فهاهو باراك أوباما يتحدث أمام الإيباك، عن علاقة “مقدسة” بين “إسرائيل” وأميركا، وهو هنا لا يستعير من كتاب المحافظين الجدد الذين اعتادوا مثل هذا النوع من العبارات، بقدر ما يعكس جانباً أساسياً في رؤية الساسة الأميركيين على اختلاف مشاربهم لدولة الاحتلال الصهيوني، والعلاقة الأميركية معها. فالرجل أوضح أنه التزم القيام في كل لحظة، بكل ما من شأنه الحفاظ على “أمن إسرائيل وتفوقها”، وهو بالفعل صادق في كل كلمة يقولها، ولا شيء يمكن أن يدفع إلى تكذيبه، أو التشكيك في ما يقول.

غالباً ما يتعامل الإعلام العربي (في معظمه) مع هذا النوع من الأقوال، بالإشارة إلى أنه يأتي في سياق الحملات الانتخابية، والواقع أن التوقيت هو توقيت انتخابي، لكن التوقيت لا يلغي الحقائق في تلك العلاقة القائمة فعلاً في زمن الانتخابات وفي كل وقت بين الولايات المتحدة وبين الكيان الصهيوني.

ويدور الحديث أيضاً حول أن الهدف هو كسب أصوات الناخبين اليهود، لكن أصوات هؤلاء لا تشكل في أحسن الأحوال أكثر من 2 في المائة من أصوات الناخبين الأميركيين، وفي هذا ما يفرض التوقف عند الدوافع الفعلية وراء الكلام الذي يطلقه المرشحون الأميركيون أمام الإيباك والمنظمات الصهيونية الأخرى.

تُعتبر التصريحات الأميركية بشأن العلاقة مع دولة الاحتلال الصهيوني على أرض فلسطين، أمراً معتاداً، ويندر أن تحمل مفاجأة من أي نوع، بل تذهب عامة نحو تأكيد العلاقة الاستراتيجية القائمة بين الطرفين، ويأتي هذا التأكيد في صياغات متعددة تقود دوماً إلى اعتبار العلاقة المشار إليها، متخطية للأنساق المعتادة والمتعارف عليها بين “الدول”، وعلى سبيل المثال، فإن التزامات واشنطن تجاه “دولة الاحتلال”، تفوق كثيراً التزامات الدولة الأميركية تجاه الدول الأعضاء في حلف شمال الأطلسي، ويمكن القول باختصار: إن “دولة الاحتلال” تعيش في كنف رعاية كاملة ومطلقة من قبل الولايات المتحدة الأميركية.

وعادة ما يتحدث المسؤولون الأميركيون بمراتبهم المختلفة، عن التزام استراتيجي بحماية “أمن إسرائيل”، كما أن الحديث دائم عن ضرورة جعل دولة الاحتلال قوية عسكرياً، وقادرة على شن الحرب والعدوان ساعة تشاء، ومن المعلوم أنه يجري تجسيد هذه المقولات على أرض الواقع، فالولايات المتحدة تشحن أحدث الأسلحة للكيان الصهيوني، وفور إنتاجها في المصانع الأميركية، وتقدم واشنطن مساعدات مالية ضخمة لاقتصاد “دولة الاحتلال”، كما أن الأخيرة تحظى بتغطية أميركية كاملة في المحافل الدولية، بحيث أنها تبدو من الناحية الفعلية دولة فوق القانون.

هذه أمور معروفة منذ زمن بعيد، وإذا كانت الولايات المتحدة قد ورثت الرعاية الكاملة للمشروع الصهيوني عن بريطانيا، منذ نهاية الحرب العالمية الثانية، فقد أقامت نسق علاقات غير مسبوق مع دولة الاحتلال الصهيوني عقب حرب حزيران عام 1967، وشمل هذا المعونات العسكرية والمالية والسياسية، ثم جرت صياغة هذه العلاقة في إطار اتفاقية تحالف استراتيجي، صارت معها دولة الاحتلال أقرب إلى أن تكون ولاية أميركية من كونها “دولة” ترتبط بتحالف مع الولايات المتحدة، وثابر رؤساء الولايات المتحدة على تثبيت هذا التصور، ليس لكسب أصوات الناخبين اليهود وحسب، لكن لتوظيف التأثير الذي يملكه هؤلاء على الرأي العام الأميركي، والذي صنعته المؤسسة الأميركية ذاتها؛ بأجنحتها المختلفة. هذه المؤسسة هي التي صنعت هذا القدر من التأثير للمنظمات الصهيونية، وهي وظفتها من أجل خدمة المصالح الاستعمارية الأميركية بداية، ثم صارت تمارس معها لعبة الاعتمادية المتبادلة. صنعتها وقوتها، ثم تتحدث عن حاجتها إليها.. المؤسسة هي من ضخ صورة محددة عن “دولة إسرائيل” ودورها، والمؤسسة هي من يستثمر هذا الواقع الذي أنتجته لتسويغ الانحياز المطلق لدولة الاحتلال.

وهنا يأتي دور تفسير المقصود بـ”العلاقة المقدسة”، فاختيار هذا التعبير لم يكن مجرد إشارة إلى رفع سوية العلاقة من مرتبة التحالف الاستراتيجي إلى مرتبة القداسة، بل إن التحالف الاستراتيجي نشأ عن وجود ذلك البُعد “المقدس” في العلاقة، بعد أن رسّخته الكنيسة المرئية الأميركية، وارتبط بالحديث عن هار مجدون والمعركة النهائية التي جعلت رونالد ريغان يتحدث عن وضع “حرب النجوم” في خدمتها، فضلاً عن الدعوات إلى مد دولة الاحتلال بالسلاح النووي لتكون جاهزة للمعركة المذكورة.. هذه هي الذهنية التي تحكم الساسة الأميركيين، ولها جذرها الثقافي الذي جرى التشديد عليه، وغرسه في نفوس أميركيين كثيرين، ما يعني أن الأمر يتخطى مسألة كسب الأصوات إلى كسب التأثير على الأصوات، بالاستناد إلى تكوين ثقافي جرى العمل عليه طويلاً.

تبقى الإشارة إلى أهمية رصد رد الفعل عند أصدقاء أميركا على هذا الكلام، فلم نسمع شيئاً، ولن نسمع شيئاً من ممالك النفط والمشيخات وحلفاء واشنطن.. لن نسمع شيئاً لأنهم يعرفون كل هذا، ولأنهم أدوات أميركية، وليسوا دولاً ذات سيادة تقيم العلاقات مع الآخرين وفق مصالحها.. حين يتصل الأمر بواشنطن هم أدوات تؤمر فتطيع لا أكثر ولا أقل.. رجاءً، لا يتوقع أحد رد فعل أو تعقيب أو موقف، لأنه سوف ينتظر كثيراً جداً، من دون أن يحصل على شيء.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *