سبعون… وسبعون

في الخمسين رويتُ لك كيف أسير، وذكرى النكبة، معًا. أفكّر مرّاتٍ في أن يكون موتي موعدًا لموتها: أنتهي وتنتهي، كي يبدأ زمنٌ آخر، لا أكونُ فيه ولا تكون، ولكنّنا نكون.

تبدو السبعون باذخةً مثلَ الخمسين. لمثل هذه الألفاظ وقعٌ مختلف. لا يتغيّر الألم، ولا يهتزّ الشوق، ولا يتراجع الأمل. قد لا تحبّون هذه الألفاظ مكرّرةً، وربما يسأمها بعضُكم. على أنّكم، أنتم الذين تمارسون الكتابة، تفعلون فعلكم في إكساء الأيام معنًى مختلفًا، فتتحدّثون عمّا تسمّونه “دلالات” أو “رموزًا.” ولكنّني أفهم الأمر على نحوٍ مختلف؛ فأنا أقيس الوقعَ على وجهي ــ ــ طفلةً، وشابّةً، ونكبةً شاخت. شاخت كثيرًا، وآن لها أن تسقطَ، أن تموت.

وُلدنا، أنا وهي، معًا. وأريد أن نموتَ، أنا وهي، معًا.

***

قبل سنتين، حلّت الثامنةُ والستّون. ليس للكلمتين من وقعٍ خاصّ. الرقم ثمانية، الذي يشكّل الجزءَ الأوّلَ من تاريخ الميلاد، كان حاضرًا، ولكنّكم لم تكتبوا كثيرًا. قبل سنة كتبتم حين نبت سوسنٌ مبكّرٌ على جنبات الحدود. و”الحدود” لفظٌ يسبِّب لي شقاءً خاصًّا؛ فهي تعني أنّك وضعتَ حدًّا تقف عنده. وطوال عقود كان همُّنا الأول أن نكسر الحدود. وقد فعلها فتْيةٌ في كلّ آن، منذ أن كان عمرُنا، أنا وهي، خمسَ سنوات، وعشرًا، وعشرين، وثماني وستّين. حسنًا، لم أمت، ولم تمت. ولكنّ الأهمّ أنّ الفتْية لم يموتوا، ولن يَنْسوْا، ولم يسلّموا بحدود.

***

لكنْ دعكَ من كلّ هذا. ما وعدتُكَ بأن أحكيَه لك شيءٌ آخر، وقد حدث في التاسعة والستّين. اِسمعْ. كنتُ أتوقّع أنّنا، أنا وهي، لن نبلغَ السبعين. ماتت أمّي في الثامنة والستّين، وخالتي في التاسعة والستين، بينما سرقت الأوجاعُ أبي في وقتٍ أبكر كثيرًا (تحمّلْني؛ فأنا أشرد وأستطرد). المهمّ، قلتُ في نفسي، لأرَ عكّا قبل أن أموت. فإنْ متّ فيها، عدتُ. وإنْ متُّ في منفاي، أكون قد رأيتُها.

تعرف أنّني أحمل جوازَ سفرٍ أجنبيًّا، أوروبيًّا أقصد، منذ سنوات طويلة. هناك مَن هم مثلي. هؤلاء زاروا البلادَ وصوّروا ما كان بيوتَهم، ودكاكينَهم، وحتى بيّاراتِهم وبساتينَهم. ورجعوا بوجعٍ قتل بعضَهم، وأبقى آخرين معلَّقين بين موتٍ وموت.

كنتُ خائفةً من التجربة. فماذا لو لم أجد البيتَ، ذاك الذي صرختُ فيه أوّلَ مرّةٍ قبل أن أصير بتلك الصفة السقيمة: “لاجئة”؟ وماذا لو زال دكّانُ أبي؟ والحارة؟ والمشربيّة؟ ورائحةُ الصبح؟ إنْ لم أجد ذلك كلَّه، فما الذي سأفعله بالذاكرة، بكل تلك الصورِ والحكايات؟

هكذا مضت السنون: يقتل الخوفُ العزمَ، فأبقى حيث أنا، في ذلك المنفى المثلج.

***

أحيانًا، كنتُ أدخل في نقاشاتٍ متعبةٍ مع طلّابي (أدرِّس في الجامعة كما تعلم). أحكي لهم عن بلادي التي يعرفونها باسمٍ آخر. بعضُهم انتقل من الهزء بي إلى الاستماع المشفق، وتحمّس قليلون للفهم. هؤلاء بالذات هم من صاروا يُلحّون عليّ بأن نذهب معًا إلى البلاد، إلى عكّا. خطّطنا لذلك مرّاتٍ كثيرة، وضربنا المواعيدَ، وبقينا حيث نحن، بانتظار مرّةٍ أخرى.

ثمّ قرّرتُ الذهابَ في التاسعة والستّين. للسبب الذي قلتُه لك. لم أصطحب أحدًا معي. نادرًا ما تُقرِّر أن تأخذ أحدًا معك إلى البيت، وأنا كنتُ ذاهبة إلى البيت. وحيدةً، مثل شجرة الكَبّاد في ساحة الدار.

في الطريق إلى مطار كوبنهاغن شغلتُ نفسي بالتفكير في معطفي الثقيل. عكّا لا تحتمله. وهنا لا أستطيع الاستغناءَ عمّا يدثّر عظامي. بعد هنيْهات، سخرتُ من هذا الانشغال المقصود بالمعطف؛ أعتقد أنّني كنتُ أريد منه أن يغطّي شيئًا ما يدور في خاطري ولا أقوى، أو لعلّي لا أريد مواجهتَه.

أمضيتُ عمرًا في الترحال. في الدقائق الأخيرة من رحلات الطيران يعلنون عن الوصول إلى المطار، ويشفعون الإعلانَ بكلماتٍ طيّبةٍ تنوس بين الشكر والترحاب. صكّ مسامعي اسمُ المطار، بن غوريون، ولم أعد أسمع شيئًا آخر. احتلّ أذنيَّ طنينٌ مزعج.المهمّ، رأيتُ مطاراتٍ كثيرة. لم يكن هذا المكانُ ليُشْبه أيَّ مكانٍ آخر. هو لي، وهو عدوّ لي. أحبُّ أرضَه، وأكرهُه في آن معًا. كنتُ أسير بخطواتٍ متثاقلة. للحظة، فكّرتُ في أن أعود أدراجي وأبقى في الطائرة حتى تُقلّني إلى حيث أتيت. ولكنّ الوقت كان قد فات. صرت أنقل المعطفَ الثقيلَ من يدٍ إلى يد، وأربكتني حقيبةُ يدي الصغيرة ونظّارتي الطبية وحذائي. كلُّ شيء صار مربِكًا وثقيلًا. وبات كلُّ ما أريده هو أن تتأجّل تلك المواجهةُ الغريبة بيني وبينهم. هم هنا في مكانٍ لي، وأنا هنا في مكانٍ لي وليس لي.

 كنتُ حزينةً وخائفة. كيف أقول لك ذلك؟ لست أدري كيف يمكن وصفُ الحزن بالكلمات. هذا متعذّر، مثلما يستحيل رسمُ الخوف بالكلمات. الخوف لا يقال؛ الخوف يُحسّ. والحزن يشبهه. في صورةٍ أو لوحة، يمْكن عينيْن مذعورتيْن أن تكونا كنايةً عن الخوف، ولكنّه ليس الخوف. ويمْكن عينيْن دامعتيْن أن تعبِّرا عن حزنٍ ما، لكنّهما ليستا الحزنَ تمامًا. الحزن والخوف يقعان في مطارحَ قصيّةٍ أكثر.

لم تكن عينايَ مذعورتيْن، ولا دامعتيْن. لكنني كنتُ أبكي. لا. لنقلْ إنّني كنت أرتجف. انتبهْ. ليس تمامًا. كنتُ متماسكةً ولكنّني أرتجف. شيء بعيد كأنّه لا يخصّني، وهو في داخلي كان يرتجف. لعلّك تفهم الآن ما أقصده. ليس ضروريًّا أن تفهم ذلك؛ لا تقف عند الاستطرادات هذه. أعرف أنّكَ تريد أن تعرف كيف انتهى الأمر، ولا تهمّك تلك التفاصيل. ولكنّها، التفاصيلَ، هي بالذات حكايتي.

نقلتُ معطفي إلى ساعدي الأيسر، وبصعوبةٍ تناولتُ جوازَ سفري ليكون في يدي اليمنى. في الأثناء، لمحتُ طيفَ ابتسامته. ربّما لم تكن كذلك. على كلّ حال كانت التكشيرةُ أكثرَ وضوحًا عندما وقعتْ عيناه على اسمي. أخذ يقلّب أوراقَ الجواز، ويرسل في اتجاهي نظراتٍ تحمل الكثيرَ من معاني الريبة والاتهام. تجلّدتُ حتى لا أنفجرَ في وجهه صارخةً. كان كلام كثير يدور في رأسي، ويتحشّد في حلقي. ولكنّني لذتُ بالصمت، وتصنّعتُ اللامبالاة.

إلى جانبه حضر رجلٌ آخر. تبادلا على مسمعي كلامًا بلغةٍ غريبة، يدركان أنّني أعرفها ولا أفهمها. وفي لحظة، انتهى كلُّ شيء. مدّ لي جوازَ سفري.. من دون كلمةٍ واحدة. لكنّه بدا غاضبًا، فسررتُ. أغضبتُه. أغضبه اسمي، ووجودي هنا، وتاريخُ ميلادي. وربما يتساءل مستنكرًا: كيف لا يزال هذا الإنسانُ هنا بعد كلّ هذه السنين؟

سررتُ لغضبه. لقد فعلتُ شيئًا ما.

***

ما حدث بعد ذلك كان غريبًا. خارج مبنى المطار، تغيّر كلُّ شيء. فقد امتلأتْ رئتايَ بهواءٍ أعرفُه، يشبه ما تخيّلتُه أو كان يوصف لي في الحكايات. لأول مرّة لمستُ ما خلتُه وهمًا على أنّه حقيقةٌ كاملة. شممتُه ورأيتُه، وضمّني.

كنتُ قد حدّدتُ وجهتي منذ البداية: البيت. تخلّصتُ من المعطف الثقيل وحقيبةِ الثياب في غرفة الفندق، وطرتُ مثل فراشةٍ إلى البلدة القديمة. لم أفْرغ توقي فيها. أدرك أنها تحتاج إلى أن أتنشّق جدرانَها وأزقّتها ودكاكينها على مهل، في وقتٍ لاحق. لكني أريد الآن رؤيةَ البيت.

صحبني قريبٌ لي، كنتُ قد اتّفقتُ معه سابقًا على موعد وصولي، من مقهى في ساحة اللومان في البلدة القديمة. حاول بدايةً أن يثنيني، أن يُقْنعني بأن نؤجِّلَ تلك الزيارة. فهمتُ أنه يخشى عليّ شيئًا ما. وأمام إصراري، مضينا معًا إلى البيت القريب. كنت لا أترك عينيَّ ترتويان من أيّ شيء؛ سيحين وقتٌ لذلك كلّه. أما الآن فقد تجنّدتْ حواسّي كلُّها من أجل هدفٍ واحد.

وصلنا. يا إلهي! إنّه كما في الوصف تمامًا… سوى أنّ أغصانَ شجرة الكَبّاد لم تكن ظاهرةً. كما في الوصف تمامًا… سوى أنّ خرقةً بيضاءَ وزرقاءَ كانت تنتصب فوق المنزل. كانت عيناي تقعان على الكثير من هذه الخِرَق منذ وصولي، وتعلّمتُ ألّا أراها. هذه الخرقة فوق بيتنا كانت مستفِزّة، وتثير الكثيرَ من التساؤلات. أعرف بالبديهة أنّ هذا البيت هو بيتي: فقد وُلدتُ فيه، وأبي وُلد فيه، ولن تُغيّر تلك الخرقةُ التافهةُ من الواقع شيئًا. ولو بقيتُ في البيت الذي وُلدتُ فيه لَمَا رفعتُ علمًا فوقه. وإنْ رفع بعضُنا الأعلامَ اليوم، فلأنّهم يريدون محوَ هويّتنا. أما هم فيريدون لخرقةٍ أن تعاندَ الحقيقة، ولذلك يرفعون أعلامًا فوق بيوتنا المسروقة.

***

لم أدخلْ إلى البيت. لم أرَ ما كنت أريد أن أراه، لكنّني فهمت. تسمّونها “الدلالة” أو “الرمز”؟ لقد فهمتُ ما يعنيه هذان اللفظان. اللصوص لا يملكون يقينًا بأنّهم امتلكوا ما سرقوه؛ أما أنا فلديّ يقينٌ يقهر الخوفَ. ولأوّل مرّة مذ قرّرتُ المجيء رقص قلبي.

انتبهْ. لم يرتجفْ قلبي، بل كان يرقص.

سأعيش، وتموتُ قرينتي، وإنّي لأشاهدُ موتَها. وفي كلّ حال: سنكون، ولن تكون.

***

بدا قريبي مندهشًا. ألن نحاول الدخولَ إلى البيت؟

كلّا، قلتُ له. لقد رأيتُه. فلنعدْ إلى ساحة اللومان.

قلب شفتيْه، وأشار بيده: تفضّلي.

بيروت 


نشرت في مجلة الآداب 15/05/2018

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *