العولمة الاقتصادية والمالية وتأثيرها على الاقتصاد الوطني

مقدمة:

يشار على نحو متكرر إلى أن “العولمة” ظاهرة قديمة، ووجودها في الواقع سابق على تبلور المفهوم الدال عليها في العصر الحاضر. إذ غالباً ما سعت القوى المسيطرة إلى تعميم أنساق سلوكية وفرض منظومات قيم محددة على من هم أضعف منها، وعلى من تمكنت من إخضاعهم. ولعل المثال الذي يتم استحضاره كثيراً، هو مثال ما يعرف بعصر “السلام الروماني” (pax romana ( الذي فرضه الإمبراطور “أوغسطين” واستمر به الأباطرة الرومان من بعده لمئتي عام. وهو جاء محصلة الفتوحات العسكرية الضخمة، وما نتج عنها من إخضاع أراضي أمم وشعوب كثيرة، للسيطرة المباشرة، ومن ثم للأنساق والقيم التي تحملها القوة المهيمنة.

تكرر الأمر في كل مرحلة كانت تستطيع فيها قوة عسكرية ضخمة وصاعدة، فرض نفسها على العالم، حتى أن الولايات المتحدة الأمريكية في مرحلتها الإمبراطورية في العصر الحاضر، كانت تتحدث عن “أمركة العالم”. وكان هناك من أشار إلى “السلام الأمريكي” )pax Americanaفي استعادة للنموذج القديم. بيد أن وسائل السيطرة والإخضاع تغيرت، إذ لم يعد نموذج الاستعمار المباشر سبيلاً متبعاً للهيمنة والإخضاع، وحلت مكانه وسائل جديدة. حتى بات شائعاَ على نطاق واسع، ارتباط ما يعرف بالاستعمار الجديد بالهيمنة الاقتصادية.

من المتصور أن  لفظة “العولمة” التي تعني في اللغة العربية ” تعميم الشيء وجعله سائدا” هي الترجمة الأكثر رواجاً للمصطلح المقابل قي اللغة الإنكليزية (Globalization). علماً أن هناك من يترجم المصطلح الإنكليزي إلى “الكوكبة” أو “الكونية” وغيرهما من المصطلحات. وعملياً لا يوجد تعريف محدد “للعولمة” بسبب تعدد مجالاتها، فهناك العولمة السياسية، والعولمة الاقتصادية، والثقافية، كما أن هناك من يربط بين وجود العولمة وتطور تقنيات الاتصال والتكنولوجيا المرتبطة بها. ويمكن الافتراض أنها تشكل مزيجاً من كل هذا. ولكن “العولمة” التي حضرت بشكلها الجدبد في أعقاب الحرب العالمية الثانية، تبلورت أكثر مع سقوط جدار برلين، وانفراد الولايات المتحدة بالسيطرة على العالم. بيد أنه من المفارقات اللافتة للانتباه، أن القوى التي هيمنت في منظومة العولمة، وكانت وراء تعزيزها اقتصادياً وثقافياً، تعيش حالة من النكوص عنها لأسباب اقتصادية في الدرجة الأولى (من الأمثلة الدالة على هذا الصعيد، انتخاب دونالد ترامب صاحب الخطاب الشعبوي الوطني، رئيساً للولايات المتحدة) ما يشير إلى أن الحضور المؤثر للعولمة تجلى في البعد الاقتصادي.

أولا: العولمة الاقتصادية والمالية:

عند القول إن العولمة الاقتصادية هي التجلي الأبرز للظاهرة، فينبغي ألا تغيب الإشارة إلى أن ” التقدم الهائل في وسائل الاتصالات والمواصلات والانخفاض الكبير في تكاليف النقل، وتكاليف الاتصالات الإلكترونية السريعة، وشبكات المعلومات وشبكات الاتصالات والحاسبات أدى إلى تسريع وتسهيل العولمة الاقتصادية”، بمعنى أن الثورة التكنولوجية، قد سخرت في خدمة العولمة الاقتصادية، وأصبحت بحد ذاتها من القطاعات الضخمة في الاقتصاد العولمي. وتبدو هذه الإشارة هامة، لأن هناك من يرى العولمة بوصفها ثورة الاتصالات وحسب.

تعريف العولمة الاقتصادية: تعرف العولمة الاقتصادية، على أنها تعميق المبادلات بين المتعاملين في الاقتصاد العالمي بحيث تزداد نسبة المشاركة في التبادل الدولي والعلاقات الاقتصادية الدولية لهؤلاء من حيث المستوى والحجم والوزن في مجالات متعددة، وأهمها السلع والخدمات وعناصر الإنتاج، بحيث تنمو عملية التبادل التجاري الدولي، لتشكل نسبة هامة من النشاط الاقتصادي الكلي، وتكون أشكالاً جديدة للعلاقات الاقتصادية الدولية في الاقتصاد العالمي، يتعاظم دورها بالمقارنة مع النشاط الاقتصادي المحلي. (وقد) أدت العولمة الاقتصادية إلى انصهار مختلف الاقتصادات الوطنية والإقليمية في ما أصبح يعرف باقتصاد عالمي موحد (اقتصاد معولم). كما أثرت العولمة على الاستثمار الواسع المدى في كل أنحاء العالم، وعلى التكامل بين الأسواق العالمية.

أصبحت العولمة الاقتصادية من أبرز وأهم الظواهر في التطور العالمي على جميع المستويات، ويظهر اختلاف في تحديد مفهومها من خلال التعاريف التالية:

  1. هي الزيادة في التدفقات التجارية، ورأس المال والمعلومات، وأيضاً قدرة الأفراد على الانتقال عبر الحدود.
  2. وتعرف على أنه تيار متصاعد من أجل فتح الأسواق، وانفتاح كل دول العالم على بعضها ببضاً، وقد تنامى هذا التيار، مع تزامن حركة نهوضية، من اجل تحديث وتطوير بنية الإنتاج في اقتصاديات السوق المتقدمة، وتصدع نظم التخطيط المركزي، وتحولها إلى اقتصاد السوق.
  3. وثمة من بعرفها بأنها الاندماج بين اقتصاديات الدّول، دون وجود أيّ عوائق جغرافية أو سياسية أو اقتصادية كفرض التّعرفة الجمركية على السّلع، والخدمات. ويعتبر أنها تضعف مفهوم السيادة الوطنية.

تعريف العولمة المالية: تعرف العولمة المالية على أنها عمليات التحرير المالي والتحول إلى الانفتاح المالي الذي يؤدي إلى تكامل الأسواق المالية وارتباطها، وذلك من خلال إلغاء القيود على حركة رؤوس الأموال ولكي نستدل على العولمة الماية نرجع إلى مؤشرين:

الأول: خاص بتطور حجم المعاملات عبر الحدود للأسهم والسندات في الدول الصناعية المتقدمة.

الثاني: – المعاملات المتعلقة بالاستثمار في سوق الأوراق المالية. الأسهم والسندات.

      – المعاملات المتعلقة بالائتمان التجاري والمالي والضمانات والكفالات والتسهيلات المالية.

     – المعاملات المتعلقة بالبنوك التجارية وتشمل الودائع المقيمة واقتراض البنوك من الخارج والتي تمثل تدفقاً إلى الداخل، والقروض والودائع الأجنبية التي تمثل تدفقات إلى الخارج.

     – المعاملات المتعلقة بالاستثمار الأجنبي المباشر، وهي تشمل التحرير من القيود المفروضة على الاستثمار الأجنبي المباشر الوارد إلى الداخل، أو المتجه نحو الخارج، أو تصفية الاستثمار وتحويلات الأرباح عبر الحدود.

أسباب العولمة الاقتصادية:

يحدد الباحثون الأسباب التي أدت إلى العولمة الاقتصادية بالآتي:

  1. تحرير التجارة الخارجية: ويقصد به تكامل الاقتصادات المتقدمة والنامية، في سوق عالمية واحدة مفتوحة لكافة القوى الاقتصادية في العالم، وخاضعة لمبدأ التنافس الحر، فبعد الحرب العالمية الثانية رأت الدول المنتصرة ضرورة قيام نظام اقتصادي عالمي يخدم بالأساس مصالحها ومصالح الدول الصناعية بصفة عامة. وقد مهد مؤتمر “بيرتون وودز” عام 1944 الطريق لتأسيس النظام الاقتصادي العالمي الحديث، وتم بموجبه إنشاء “صندوق النقد الدولي” و “البنك الدولي للإنشاء والتعمير” (بداية بهدف معالجة آثار الحرب العالمية الثانية) كما اجتمعت 23 دولة عام 1947، وأسست ” المنظمة الدولية للتعرفة والتجارة” (الجات) التي قررت إلغاء حواجز التبادل التجاري والجمارك بين الدول الأعضاء، وبدأ العدد في التزايد، ومن ثم أنشأت ” منظمة التجارة العالمية” عام 1995، لتكون مجلساً شرعياً له نطاق واسع، وصلاحيات أكبر. وتتألف المنظمة اليوم من 137 دولة، ومن أهم أهدافها تحديد التجارة لخفض الجمارك على البضائع المستوردة.
  2. عولمة التجارة العالمية: نمو التجارة العالمية بشكل كبير خلال التسعينيات، حيث بلغت ضعف الناتج المحلي الإجمالي العالمي، وذلك بفضل الدور الذي لعبته “الشركات متعددة الجنسية” حيث نجد أن 90 في المائة من التجارة العالمية، قد دخلت مجال التحرير، حيث زاد معدل التجارة العالمية بـ 9 في المائة، خلال عام 1995، في حين زاد الناتج العالمي بـ 5 في المائة.
  3. عولمة الاستثمار الأجنبي المباشر: زاد نمو الاستثمار الأجنبي المباشر رغم زيادة التجارة العالمية وذلك بسبب تعاظم الأدوار التي تلعبها الشركات متعددة الجنسيات، والتي عملت على إحداث المزيد من عولمة التكنولوجيا والأسواق من خلال توحيد الأسواق إلى سوق عالمي موحد، وتحريره من جميع القيود، إذ قدر معدل نمو الاستثمار الأجنبي المباشر خلال التسعينيات بحوالي 12 في المائة.

العوامل المؤدية إلى العولمة المالية وتطورها:

  1. تأثير التحرير المالي: أدى التحرير المالي إلى زيادة تدفقات الأموال عبر الحدود.، كما قادت جرية تحويل الأموال بأسعار الصرف السائدة، إلى تسارع عولمة الأسواق المالية، والعولمة المالية.
  2. إعادة هيكلة صناعة الخدمات المالية: مع التغيرات الكبيرة في صناعة الخدمات المالية، جرت عملية إعادة هيكلة لهذه الصناعة، وحدث تغير ملموس وواضح في الأعمال المصرفية وأنشطتها، وتوسعت دائرتها على المستويين المحلي والدولي، بعد التحرير وإلغاء القيود خصوصاً في العقد الأخير من القرن الماضي، وما تلاه. وقد أدى كل ذلك إلى زيادة أرباح البنوك وخاصة مع التوسع في الاتجاه نحو البنوك الشاملة وزيادة الأرباح من التعامل بالسندات وعمليات إدارة الأصول وغيرها. وقد أدت عملية إعادة هيكلة صناعة الخدمات المصرفية إلى دخول المؤسسات المالية غير المصرفية مثل شركات التأمين وصناديق المعاشات وصناديق الاستثمارات كمنافس قوي للبنوك في مجال الخدمات المالية، كما أدت إلى ظهور عمليات اندماج مصرفي لتوسيع السوق المصرفية والمالية، وهو ما يؤدي بالضروة إلى تزايد الاتجاه نحو العولمة المالية.
  3. وجود فائض نسبي متزايد  لرؤوس الأموال: اتجهت الفوائض المالية التي عجز السوق المحلي عن استيعابها إلى الأسواق الخارجية من أجل الاستثمار وجني الأرباح، ما أدى إلى تزايد الاتجاه نحو العولمة. كما أن انخفاض أسعار الفائدة وتباطؤ النمو أدى إلى خروج الأموال منها بحثاً عن معدلات ربح أعلى في أماكن أخرى.
  4. النمو الكبير للرأسمالية المالية: مع تراجع معدلات الأرباح التي تقدمها قطاعات الإنتاج الحقيقي (الزراعة والصناعة) وتزايد أرباح الرأسمال المالي، انفصلت النشاطات المالية عن الإنتاج، وأصبحت الأدوات المالية سلعاً بحد ذاتها، ما زاد الاتجاه نحو العولمة المالية.
  5. تطور الابتكارات المالية: ظهر كم هائل من الأدوات المالية الجديدة والتي أخذت تجتذب العديد من المستثمرين في الأسواق المالية، مع أن هذه الابتكارات تتعامل مع التوقعات المستقبلية، وتتيح للمستثمرين مساحة واسعة من الاختيارات عند اتخاذ قراراتهم الاستثمارية.
  6. عمليات الخصخصة: أدت إلى تسارع العولمة، عن طريق ربط الاقتصادات الوطنية ودمجها بالاقتصاد العالمي، والتخلص من هيمنة الحكومات وقطاعها العام على الحياة الاقتصادية، وإعطاء القطاع الخاص دوراً أكبر في إدارة الاقتصاد. وقد تدفقت رؤوس أموال أجنبية إلى الدول التي طبقت الخصخصة، ولاقت دعماً من صندوق النقد والبنك الدوليين، مع وصفات إعادة الهيكلة.
  7. انتشار عمليات الشراء والاندماج:  وقد جاءت هذه العمليات محصلة للمنافسة القوية بين المؤسسات المالية المصرفية وغير المصرفية في مجال الخدمات المالية، حيث حصلت عمليات اندماج محلياً ثم عالمياً.
  8. العوامل الفنية وتكنولوجيا المعلومات: وتتمثل في التطورات التكنولوجية في حقلي الاتصالات والمعلوماتية، حيث تم تجاوز عقبة الزمان والمكان بين المؤسسات والأسواق المالية العالمية المختلفة، وانعكس ذلك جلياً على انخفاض تكلفة المعاملات المالية فضلاً عن انخفاض تكلفة الاتصالات نفسها وتأثيرها على تنوع العمليات المصرفية من خلال استخدام وحدات الصراف الآلي ونقاط البيع الإلكترونية، وخدمات البنوك بالهواتف المحمولة، وتنامي عمليات التجارة الإلكترونية، ما أسهم في جعل الأسواق المالية العالمية، وكأنها سوق واحدة، مما سهل عملية تدويل الأموال، وزادت السرعة والسهولة التي تنجز بها الصفقات المالية.
  9. اتفاقية بازل المتعلقة بالنظام المصرفي العالمي: أولت الاتفاقية اهتماماً كبيراً بمخاطر السوق، والمخاطر التشغيلية للمصارف، لأن تأثيرها لا يقل خطورة عن المخاطر الائتمانية. ونصت على الرقابة الإشرافية الفعالة، وتشجيع البنوك ومساعدتها على تكوين أنظمة داخلية لتقييم المخاطر بمختلف أنواعها، والمتابعة المستمرة لوضعية البنوك بهدف الكشف المبكر عن مواطن الخطر لتصحيحه، والربط بين البنوك بوسائل الاتصال الحديثة بما يسمح بتدفق المعلومات، والتنسيق ما بين الرقابة المحلية والدولية، وان تتسم التقارير السنوية بالإفصاح عن الحقائق والشفافية.

ثانياً: العولمة المالية والاقتصادية (النظام الجديد): الآثار والانعكاسات:

جرت الإشارة آنفاً إلى أن تبلور مفهوم “العولمة”، بل وحضورها المؤثر جاء بعد انهيار جدار برلين. ويجري التأريخ لما يعرف بالنظام العالمي الجديد، بانهيار الاتحاد السوفياتي، ومنظومة الدول الاشتراكية مع ما عناه من ظهور التفرد الأمريكي بقيادة النظام العالمي، أو ما يشار إليه بالقطبية الأحادية.

لا شك في أن هذه التحولات الكبرى على الصعد السياسية والاقتصادية والثقافية، قد تركت آثاراً على العالم كله، ولكن الأطراف الضعيفة تتلقى عادة تأثيرات أكثر بكثير من الأطراف القوية. ولذلك فإن الدول النامية كانت أكثر تأثراً بالعولمة والنظام العالمي الجديد.

خلف التفرد الأمريكي بقيادة العالم إحساساً عاماً بأن ما يجري على الصعيد العالمي، هو أشبه بـ”أمركة” منه بـ”عولمة”. كما جرى التركيز كثيراً على مفاهيم السيادة الوطنية، والهويات الحضارية والثقافية التي تتهددها مفاعيل العولمة الجارفة. بيد أن صمود الهويات الثقافية، لم يجاريه صمود الاقتصاد، فهنا كانت التأثيرات كاسحة، حتى أنه وقع نوع من التسابق (وحتى الاستخذاء)، في تلبية شروط منظمة التجارة العالمية، بغية التحول إلى جزء من منظومة الاقتصاد العالمي. هنا ربما لا يمكن الإغضاء عن بعض الإيجابيات، ولكن السلبيات كثيرة أيضاً.

إيجابيات العولمة الاقتصادية والمالية:

  1. زيادة حجم التجارة الدولية.
  2. فتح فرص أكبر للاصتثمار، واجتذاب رؤوس أموال أجنبية، ورفع مستوى التقانة. ورفع الأجور.
  3. رفع معدلات نمو الناتج المحلي، والإجمالي العالمي، وزيادة فرص النمو الاقتصادي للاقتصادات الوطنية.
  4. تنويع المنتجات من السلع والخدمات، وتحسين جودتها، مع انخفاض تكاليفها وبالتالي أسعارها.
  5. توسيع الاستفادة من المزايا النسبية التي تتمتع بها الكثير من الدول النامية.
  6. تسريع تنفيذ توجهات الخصخصة والإصلاح الاقتصادي وتوسيع مشاركة القطاع الخاص.

أما على الصعيد المالي فيمكن رصد الآتي:

  1. تنوع خيارات التمويل لعملية التنمية.
  2. سهولة الوصول إلى مصادر التمويل.

3- الحد من زيادة المديونية.

  1. تخفيض تكلفة التمويل.
  2. نقل التكنولوجيا المتنوعة.
  3. خفض أسعار الفائدة محلياً.
  4. توزيع الأصول المالية وتقليل المخاطر.

سلبيات العولمة الاقتصادية والمالية:

  1. اضعاف الأمن الاقتصادي بسبب التأثر الكبير للاقتصاد الوطني بتقلبات الأسواق، والتأثيرات الخارجية من الدول الكبرى. والانعكاس المباشر للأزمات الاقتصادية في تلك الدول على الاقتصادات المحلية.
  2. اتساع الفجوة في المداخيل بين الدول الفقيرة وبين الدول الغنية، وتركز الثروات عند الأخيرة بسبب العوامل الآتية:

– انعدام التكافؤ بين الأطراف المشاركة في ميبرة العولمة، فالشركات متعددة الجنسية والتي تقوم باستغلال ومقدرات الشعوب تابعة للدول الكبرى الغنية.

– طبيعة سياسة السوق حيث البقاء للأقوى والأجود، ما يجعل الدول النامية أسواق استهلاك.

– تراجع حصيلة الدولة من الرسوم الجمركية بسبب خفض وإلغاء التعرفة الجمركية على المنتجات المستوردة، ومع الضعف الذي يلحق بالميزانية العامة، ينخفض الانفاق على التجهيزات الصناعية الأساسية.

– تعرض القطاعات الاقتصادية السلعية (الزراعة والصناعة) والخدمية المحلية، والخدمات المالية، الاتصالات، التوزيع والنقل، أعمال المهن الحرة، لمنافسة كبرى بين السلع والخدمات المستوردة من الدول المتقدمة، وهي ذات الشركات العملاقة متعددة الجنسية مع إمكاناتها الهائلة في الإنتاج والتسويق، وهو ما قد يؤدي إلى اختفاء وانقراض عدد من الصناعات والمؤسسات والنشاطات الخدمية المحلية ذات الكفاءة المنخفضة في الدول النامية.

– رفع أسعار مدخلات المنتجات الزراعية والغذائية بسبب ارتفاع كلفة شرائها وتوريدها، التزاماً بسياسات إلغاء الدعم المعتمدة من منظمة التجارة العالمية والبنك الدولي.

– تقييد السلطة المحلية في اتخاذ القرارات الاقتصادية المتعلقة بالسياسات التجارية والمالية والصناعية والزراعية والأنظمة والإجراءات المتعلقة بها تنفيذاً للسياسات والأهداف والمبادئ التي تضعها منظمة التجارة العالمية.

وعلى الصعيد المالي يمكن رصد السلبيات الآتية:

  1. مخاطر تعرض الدول النامية للأزمات المالية والمصرفية: في ظل العولمة تزداد درجة اندماج وتكامل الجهاز المصرفي مع الأسواق المالية العالمية، وهكذا فإن المصاعب التي تواجه بنكاً أو جهازاً مصرفياً في دولة ما، تؤثر على سائر القطاعات المصرفية في الدول الأخرى، مما يزيد من مخاطر سهولة انتقال الأزمة، وسرعة انتشارها، فور إصابة جهاز مالي بالأزمة. والأمر مرتبط هنا بعاملي: العدوى من سوق مالي إلى آخر، وانعدام السيولة.
  2. نخاطر هروب الأموال الوطنية للاستثمار بعوائد أعلى وفي قطاعات مختلفة في دول أخرى.
  3. مخاطر تراكم الأموال، حيث تراكم رأس المال في الدول المتقدمة، كما أن الاستثمار الأجنبي المباشر يتجه في غالبيته نحو الدول المقدمة، ما يجعل الدول الضعيفة تواجه الشح وهجرة أموالها.
  4. مخاطر عولمة المديونية، حيث عمدت الكثير من المصارف في الدول الكبرى إلى تحويل الديون الخارجية للبلدان النامية إلى أوراق مالية تتداول في الأسواق المالية العالمية، وهذا يعرض تلك الدول إلى حالة عدم التأكد من ديونها نتيجة التقلبات التي تحدث في الأسواق المالية، وقد يعرضها ذلك إلى ارتفاع مديونيتها.
  5. مخاطر غسيل الأموال: العولمة المالية أدت إلى صعوبة تعقب مصادر الأموال، فالبرغم من معايير الرقابة، تتم إجراءات تدخل تلك الأموال الناتجة عن أنشطة غير مشروعة في الدورة الاقتصادية لبلد ما، ما يهدد النمو والاستقرار الاقتصادي.
  6. إضعاف السيادة الوطنية في مجال السياسة النقدية والمالية، فارتفاع معدلات الاندماج والتكامل بين السوق المحلي وبين أسواق المال الخارجية، يرجح أن تفقد الدولة سيادتها الوطنية في مجال السياسة النقدية والمالية، أي أن أسعار الصرف والفائدة تتحدد نتيجة لتفاعل دخول وخروج رؤوس الأموال واستثمارها في نفس الدولة، كما أن الأموال المستثمرة تتجه في ظل الحرية المالية إلى الدول التي تنخفض فيها الضرائب مثلاً. وتتجه الحكومات إلى منح مميزات ضريبية لرؤوس الأموال الأجنبية مما يؤثر على الإيرادات السيادية للدولة، ويرفع من عجز الموازنة العامة.(1)

ثالثاً: آثار العولمة الاقتصادية والمالية على الاقتصاد الفلسطيني:

بداية يصح الافتراض بأن الانعكاسات السلبية للعولمة الاقتصادية على الدول النامية والفقيرة، تطاول فلسطين أيضاً، والتي تعتبر من بين الدول الأضعف، حتى أنها دولة افتراضية، أو في طور التشكل. لكن رصداً حقيقياً وجاداً لانعكاسات العولمة الاقتصادية والمالية على فلسطين والاقتصاد الفلسطيني، يظل من الناحية الفعلية غير ممكن ببساطة، لأن الحديث يدور عن اقتصاد مستتبع للاقتصاد الإسرائيلي.

وفضلاً عن السياسة التدميرية الممنهجة التي تقوم بها “إسرائيل” (دولة الاحتلال) للبنى الاقتصادية الفلسطينية، والإعاقة المتعمدة لأي نمو محتمل للاقتصاد الفلسطيني، فقد نصت اتفاقية باريس الاقتصادية الملحقة بـ”اتفاق أوسلو”(2) على استتباع الاقتصاد الفلسطيني لاقتصاد دولة الاحتلال، وأنشأت ” مزيجاً ما بين نظامي منظقة التجارة الحرة والاتحاد الجمركي بينهما.”(3) أي بين السلطة الفلسطينية الناشئة على أماكن محددة من الأراضي المحتلة عام 1967، وبين دولة الاحتلال.

وتسيطر دولة الاحتلال على موارد الجمارك، وقد منعت السلطة من إصدار عملة خاصة بها. فبقي التداول النقدي بالعملة الإسرائيلية (الشيقل) وبالدينار الأردني في بعض الأحيان كعملة ثانية. وغير خاف أن القصد من ذلك تعميق ارتباط الاقتصاد الفلسطيني باقتصاد دولة الاحتلال، ومنع تشكل “هوية اقتصادية” فلسطينية إن جاز التعبير.

إلى كل ذلك، “يعاني الاقتصاد الفلسطيني عموماً من ضعف الموارد الطبيعية من أرض ومياه ومعادن ومواد خام، إضافة إلى ضعف معدلات التراكم الرأسمالي وضعف السوق المحلي وارتفاع معدلات الفقر وانخفاض مستويات المعيشة” (4).

لقد سعت السلطة الفلسطينية، وفي إطار الخطط الاقتصادية التي وضعتها للتنمية والنهوض بالاقتصاد الوطني، إلى الدخول في اتفاقات شراكة وتعاون دولية، مدركة أن من الصعوبة بمكان البقاء خارج الاتجاه العالمي الجارف للعولمة الاقتصادية. ومن الاتفاقات التي تم التوقيع عليها ” اتفاقية الشراكة الأوروبية المتوسطية للتجارة والتعاون، واتفاقية التجارة الحرة والتعاون الجمركي مع الولايات المتحدة الأمريكية، واتفاقات التجارة الحرة مع كندا، روسيا، اليونان، جنوب أفريقيا، تركيا، ألمانيا..”. وأسهمت هذه الاتفاقات في تيسير علاقات تجارية بين السلطة الفلسطينية والأطراف التي وقعت الاتفاقات معها إلى حد ما. ولكن الملاحظة الجوهرية تكمن في أن الاتفاقية مع الولايات المتحدة مثلاً ” تتعامل مع السلطة الفلسطينية، كإقليم اقتصادي من ضمن الاقتصاد الإسرائيلي” (5). وغير بعيد عن هذه الملاحظة يمكن القول بأن طبيعة العلائق القسرية التي أقامتها سلطة الاحتلال مع السلطة واقتصادها تفرض التعامل وفق الصيغة المشار إليها في تعامل الولايات المتحدة مع الاقتصاد الفلسطيني.

ويمكن هنا أن نشير إلى نقطتين جوهريتين:

الأولى: ترى السلطة الفلسطينية في الانفكاك عن الاقتصاد الإسرائيلي، عملية صراعية، تخاض في المستويين السياسي أولاً ومن ثم الاقتصادي. وفي المستوى الأول تسعى السلطة الفلسطينية إلى تكريس الاستقلال والاعتراف بالدولة الفلسطينية، عبر الانضمام إلى الاتفاقات والمعاهدات والمنظمات الدولية المتعددة، الاقتصادية وغير الاقتصادية. وفي المستوى الثاني، وضع خطط لتنمية الاقتصاد الفلسطيني الذي يعتبر حتى الآن اقتصاداً ملحقاً، ومتعيشاً أيضاً على المنح والهبات والقروض الدولية. وتتزايد الحاجة إلى دعم عربي سياسي واقتصادي من أجل النجاح في المسعيين الملحوظين.

الثانية: إن حقيقة استتباع الاقتصاد الفلسطيني لاقتصاد دولة الاحتلال، يتطلب النظر إلى كيفية تعامل  “دولة إسرائيل” مع العولمة الاقتصادية والمالية. لقد كتب “شمعون بيريس” (6) عن “النظام الشرق أوسطي الجديد” والذي تحدث فيه عن تعاون اقتصادي بين “إسرائيل” والدول العربية، وكان الهدف الأوضح من هذا التعاون ” تحقيق نوع من الإندماج المهيمن لإسرائيل على دول المنطقة العربية واقتصاداتها”. كما دعا “بنيامين نتنياهو” (7) إلى ما أسماه “السلام الاقتصادي” وأساس الدعوة هو إقامة علاقات اقتصادية تكون إسرائيل هي الطرف المهيمن فيها، وتتجاوز الحقوق السياسية للفلسطينيين والعرب.

يلاحظ الباحث الفلسطيني “أيمن أبو الخير” أن “إسرائيل” حاولت بعد حرب حزيران 1967 أن تحجز لنفسها مكاناً بوصفها دولة متقدمة تكنولوجياً “وقد كانت هذه الحرب في الحقيقة حجة كافية لإقناع الولايات المتحدة والدول الغربية بالمراهنة على الأهمية الاقتصادية لإسرائيل في منطقة الشرق الأوسط. وهذا بدوره أدى إلى تدفق المساعدات المالية من هذه الدول لإسرائيل، حيث تجاوزت المعونات الأمريكية لإسرائيل في عام 1968 مجمل المساعدات التي قدمتها بين عام 1948-1967 وبعد الحرب انضمت إسرائيل إلي السوق الرأسمالي العالمي، وأخذت تصارع لاحتلال موقع لها، وقد عملت إسرائيل على عسكرة الاقتصاد والمجتمع إضافة إلي إقامة البنية التحتية الاقتصادية والعلمية اللازمة لإحداث التراكم الرأسمالي, وقد ارتفعت معدلات النمو، وازداد حجم الاستثمارات في الصناعات والخدمات في الفترة 1967-1987 مما أدى إلى إحداث تحول كبير في الاقتصاد الإسرائيلي، وقد حدثت الثورة الاقتصادية والاجتماعية في إسرائيل في الفترة 1988-1997 أما في المجال الثقافي فقد تم تدريجياً توسيع حرية الصحافة، وتعددت محطات البث الإذاعي والتلفزيوني.(8)

ولكن دولة الاحتلال مع كل هذا ” حافظت على خصوصيتها الاقتصادية والثقافية، حيث بقي تدخل الدولة في الاقتصاد (قائماً)، وعدم تورط إسرائيل مع صندوق النقد الدولي أو البنك الدولي، وخضوع القطاع الخاص للسياسات التي لا تتعارض مع مصلحة الدولة العليا، وخضوع الصحافة ومحطات البث للرقابة كل ذلك، من أجل توحيد عناصر المجتمع في وحدة أيدلوجية لمواجهة العدو العربي, ولكن إسرائيل أرادت أن تمارس دورها كمركز للعولمة، من خلال طرح مشروع هو في حقيقته لا يؤثر على إسرائيل سلباً، ولكنه يؤثر على الدول التي ستتعامل معها، والمقصود هنا الدول العربية بشكل خاص, وقد طرح هذا المشروع شمعون بيريز في كتابه “نحو شرق أوسط جديد, حيث وضح أن على إسرائيل الاستفادة من رخص الأيدي العاملة العربية واتساع حجم الأسواق العربية، مما يتيح لإسرائيل زيادة معدل الدخل والوصول باقتصادها إلي وضع التشغيل الكامل، الذي تفتقر إليه إسرائيل، في ظل ضيق حجم السوق المتاح لها”. (9) وعليه نكون هنا أمام نموذج متطرف للعولمة تهدف من خلاله “إسرائيل” ليس إلى السيطرة على فلسطين واقتصادها وحسب، بل للسيطرة على الاقتصادات العربية، من موقع “دولة قائدة اقتصادياً في الإقليم”.

لم تحقق إسرائيل كل ما خططت له، حتى مع نجاحها في الاختراقات التطبيعية مع عدد من الدول العربية، سواء تلك التي وقعت معاهدات معها (مصر والأردن) أم تلك التي لم توقع اتفاقات علنية سياسية، ولكنها تقيم علاقات اقتصادية بنسب مختلفة (السعودية وبعض دول الخليج والمغرب). وفي كل حال يظل الاقتصاد الفسطيني ضحية للسياسات الإسرائيلية.

ويمكن أن نلاحظ ختاماً، أنه في الوقت الذي يشار فيه إلى أن العولمة بنسختها الراهنة قد تكرست مع هدم جدار برلين، فإن دولة الاحتلال تقيم الجدران مع الفلسطينيين، وتتعمد عزلهم وإقصاءهم. وهو ما يعكس نموذجاً متطرفاً في الممارسة الهادفة إلى التهميش والتقويض.

ملاحظة ختامية:

ليس من شك في أن القوى المسيطرة عالمياً، إنما تبني مجمل عناصر قوتها استناداً إلى متانة الاقتصادات التي تأسست وفق سيرورة طويلة من البناء والنهب المنظم وإخضاع القوى الضعيفة واستغلال مواردها بطرق مختلفة. ومن المهم ملاحظة أن الحملة المناهضة للعولمة من هذه القوى بالذات، سوف تجعلها تبحث عن نماذج جديدة لاستمرار السيطرة والنهب، وبحيث تقوم هي بالذات على تقويض ما استفادت منه طويلاً ومن ثم لم يعد مناسباً لها.

وهكذا فإن نتائج الانتخابات الأمريكية (صعود الشعبوي ترامب) والنتائج المتوقعة للانتخابات الفرنسية، وانسحاب بريطانيا من الاتحاد الأوروبي هي مؤشرات على التحضير لنظام آخر، يتخطى العولمة التي جعلت أساس خطاب “ترامب” إعادة المصانع إلى الولايات المتحدة، وبناء جدار مع المكسيك.

نافذ أبوحسنة

الهوامش:

  1. جرى الاعتماد في ما تقدم على محاضرات الأستاذ الدكتور علي أبو زينب.
  2. هو الاتفاق الذي جرى التوقيع عليه في واشنطن عام 1993 بين منظمة التحرير الفلسطينية و”دولة إسرائيل” لإقامة سلطة الحكم الذاتي الفلسطيني.
  3. الصوراني، غازي. الاقتصاد الفلسطيني، الواقع والآفاق. http://www.ahewar.org/debat/files/62140.doc
  4. أبو الخير، أيمن. أثر العولمة على السياسات الاقتصادية في فلسطين، دنيا الوطن الإلكترونية، 14/12/2014.
  5. الصوراني، غازي. المصدر السابق.
  6. رئيس وزراء، ورئيس “دولة إسرائيل” السابق، توفي عام 2016. من الدعاة الأساسيين لإدماج دولة “إسرائيل” إدماجاً مهيمناً في المنطقة العربية. ومن مهندسي اتفاقات أوسلو.
  7. رئيس وزراء “دولة إسرائيل”. يطرح فكرة “السلام الاقتصادي” التي تقوم على بناء تعاون اقتصادي يتخطى وجود الاحتلال، والحقوق الوطنية للشعب الفلسطيني.
  8. أبو الخير، أيمن. المصدر السابق.

المصدر نفسه.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *